اخبار الاردن
موقع كل يوم -وكالة عمون الاخبارية
نشر بتاريخ: ٣ تشرين الأول ٢٠٢٥
المصارعة ليست رياضة عابرة في الزمن، بل هي من أقدم فنون التحدي الإنساني التي رافقت الإنسان منذ بدايات وعيه بقوة الجسد وروح المنافسة في الشرق القديم، حيث تشكّل الوعي الحضاري للإنسان، ظهرت المصارعة كطقسٍ قتالي وتعبير عن الشجاعة والانضباط، وارتبطت بالمهرجانات الدينية والاحتفالات الشعبية وبالاستعداد للحروب وفي منطقة بلاد الشام التي تشكّل أرض الأردن جزءًا من نسيجها التاريخي، كانت المصارعة أحد أشكال التدريب الجسدي الذي يعبّر عن قيم الفروسية والقوة والنظام، كما تظهر في النقوش والآثار التي توثّق ألعابًا قتالية متقاربة في الشكل والمضمون مع ما نعرفه اليوم من مصارعة حرة ورومانية.
ومع تعاقب العصور وتحوّل المجتمعات من القبيلة إلى الدولة، ظلّت هذه الرياضة حاضرة في حياة الشعوب، إما في شكلها التقليدي الشعبي أو من خلال مسابقات محلية تتوارثها الأجيال ومع بدايات القرن العشرين، ومع انتشار الفكر الرياضي الحديث في المنطقة العربية، بدأت المصارعة تجد لنفسها مكانًا على الساحة، فظهرت فرق صغيرة في المدن الكبرى، وبدأت تتشكل بذور تنظيمٍ رسمي للعبة ضمن الأندية الرياضية والمراكز الشبابية وكان الأردن جزءًا من هذا الحراك الرياضي الذي شهد تزايد الاهتمام بالألعاب الفردية إلى جانب الجماعية.
وفي هذا السياق اللافت، يُذكر أن جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين قد مارس رياضة المصارعة في فترة من حياته ضمن اهتمامه الواسع بالرياضات القتالية، وهو ما يعكس إيمانه العميق بدور الرياضة في صقل الشخصية وتعزيز الانضباط الذاتي، وترسيخ قيم الشجاعة والاحترام المتبادل وقد شكّل هذا الاهتمام الملكي نموذجًا ملهمًا للشباب الأردني، ورسالة تؤكد أن الرياضة ليست ترفًا بل نهج حياة يعزز القوة البدنية والذهنية والروح القيادية.
ومع توسّع العمل الرياضي المنظم في البلاد، أُسس الاتحاد الأردني للمصارعة تحت مظلة اللجنة الأولمبية الأردنية، ليكون الجهة الرسمية المسؤولة عن إدارة اللعبة وتنظيم بطولاتها ووضع خطط تطويرها ومع مرور الوقت، عمل الاتحاد على تدريب المدربين والحكام، وتنظيم البطولات المحلية، والمشاركة في البطولات العربية والآسيوية، بل واستضافة بعضها، ما ساهم في رفع مستوى اللاعبين الأردنيين وتعزيز حضورهم في المنافسات الدولية وقد مثّلت استضافة الأردن لبطولات كبرى للشباب والناشئين خطوة مهمة في طريق بناء قاعدة قوية من الرياضيين وتبادل الخبرات مع اتحادات عريقة في هذه اللعبة.
وفي السنوات الأخيرة، شهدت المصارعة الأردنية تطورًا لافتًا مع تأسيس فرق للفئات العمرية المختلفة وتوسيع قاعدة المشاركة لكن اللافت والأكثر إثارة للإعجاب هو دخول العنصر النسائي إلى عالم المصارعة الأردنية. ورغم أن هذه الخطوة ما زالت في بداياتها، فإنها تعبّر عن وعي متنامٍ بدور المرأة في جميع مجالات الحياة، بما فيها الرياضة التي طالما ارتبطت بالقوة والانضباط ويُعتبر تأسيس فريق للسيدات علامة فارقة في مسيرة اللعبة، فهو يعكس إرادة حقيقية في كسر الحواجز الاجتماعية وتوسيع آفاق الرياضة النسوية في الأردن، لكنه أيضًا يضع أمامنا تحديًا كبيرًا يتمثل في ضرورة دعم هذا الفريق من جميع الجهات الرسمية والأهلية والإعلامية حتى يثبت وجوده ويحقق إنجازات تليق باسم الأردن.
إن البدايات في أي مجال لا تكون سهلة، خاصة في رياضة تتطلب الكثير من التدريب والاحتكاك والخبرة، في وقت تواجه فيه منافسة قوية من دول تمتلك تاريخًا طويلاً ومدارس فنية راسخة ، لكن الأردن يمتلك مقومات النهوض، من إرادة شبابية حقيقية، ومدربين أكفاء، واتحاد يسعى إلى الارتقاء بالمستوى الفني والإداري، واستعداد لاحتضان المواهب الجديدة وصقلها ضمن برامج تدريبية ممنهجة.
ورغم التحديات التي تواجه اللعبة، سواء في التمويل أو قلة البنية التحتية المتخصصة أو ضعف التغطية الإعلامية، إلا أن الرؤية المستقبلية واضحة فالمصارعة الأردنية تقف اليوم على عتبة مرحلة جديدة، تتطلب تكاتف الجميع لتوفير بيئة رياضية قادرة على المنافسة ويُنتظر من القطاعين العام والخاص، ومن وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية، أن يقدّموا الدعم اللازم لتمكين اللاعبين واللاعبات من الوصول إلى منصات التتويج، وترسيخ مكانة الأردن على خارطة المصارعة الإقليمية والدولية.
إن المصارعة في الأردن ليست مجرد رياضة، بل هي قصة هوية وإرادة وتاريخ ممتد من جذور الحضارات القديمة إلى حاضرٍ يتطلع إلى المستقبل وبين الماضي الذي شهد على أولى صور التحدي، والحاضر الذي يسعى إلى بناء منظومة رياضية متكاملة، يبقى الهدف واحدًا: أن يرتفع العلم الأردني في ساحات البطولة، وأن تكون المصارعة الأردنية شاهدًا على أن العزيمة لا تعرف المستحيل.