الخلاف الأميركي – الإسرائيلي في الملف النووي الإيراني… وانعكاساته العميقة على القضية الفلسطينية #عاجل

الخلاف الأميركي – الإسرائيلي في الملف النووي الإيراني… وانعكاساته العميقة على القضية الفلسطينية #عاجل

كتب زياد فرحان المجالي في زمن تتقاطع فيه الملفات الكبرى، لم تعد العلاقة بين واشنطن وتل أبيب تسير على الخط ذاته الذي رسمته الحروب القديمة ولا الاتفاقات الأمنية التقليدية. ما كان يُعرف بتحالفٍ 'مقدّس” بين الطرفين بات اليوم محكومًا بشكوكٍ متبادلة، تخرج إلى العلن كلما طُرح اسم إيران على طاولة السياسة أو الحرب.

لكن خلف هذه التوترات النووية تكمن حقيقة أبعد وأخطر: أن القضية الفلسطينية هي أولى ضحايا هذا الشرخ الاستراتيجي، وهي أيضًا أكثر الملفات التي تتأثر بما يجري بين الحليفين.

أولاً: واشنطن تغيّر قواعد اللعبة

الإدارة الأميركية الحالية، برئاسة دونالد ترامب في ولايته الثانية، عادت إلى الشرق الأوسط بخطة جديدة عنوانها 'الردع المحدود” بدل 'الحروب المفتوحة”. هذا التوجه يعني أن واشنطن لم تعد راغبة في منح إسرائيل تفويضًا مطلقًا لإدارة الصراع مع إيران، بل تحاول ضبط الإيقاع بما ينسجم مع مصالحها الاقتصادية والعسكرية الأوسع.

ووفق وثائق صادرة عن مراكز بحث أميركية، فإن ترامب – رغم خطابه الصارم تجاه طهران – يسعى فعليًا إلى تحييد التوتر النووي عبر تفاهمات أمنية جديدة تشمل مراقبة البرامج الإيرانية من دون اللجوء إلى الحرب الشاملة.

بالنسبة لإسرائيل، هذا التحول أشبه بصفعةٍ استراتيجية؛ فالمؤسسة الأمنية في تل أبيب ترى أن أي تفاهم أميركي–إيراني هو 'إضعافٌ للردع الإسرائيلي” وضربٌ لمفهومها التاريخي عن التفوق النوعي في المنطقة.

ثانيًا: إسرائيل في عزلةٍ أمنية متزايدة

منذ فشلها في حسم حرب غزة، دخلت إسرائيل مرحلة فقدان الثقة بنفسها وبحلفائها معًا. لقد اعتادت أن تكون رأس الحربة في السياسة الأميركية بالشرق الأوسط، لكنها اليوم تجد نفسها في موقع المتهم بالتورط في نزاعات غير مجدية، بينما تعيد واشنطن ترتيب أولوياتها نحو آسيا وأوروبا الشرقية.

في هذا السياق، بدأ الإعلام الإسرائيلي يتحدث بصراحة عن 'انسحابٍ تدريجي” للدعم الأميركي، وعن مؤشرات توتر واضحة في التنسيق الاستخباراتي.

والأخطر أن إسرائيل بدأت تتعامل مع حلفائها العرب الجدد بحذرٍ مضاعف؛ فالدول التي هرولت نحو التطبيع قبل عامين باتت تُدرك أن واشنطن نفسها لم تعد قادرة على حماية إسرائيل كما كانت. هذه الحقيقة أضعفت مكانة تل أبيب، وأعادت إلى الواجهة فكرة أن قوة الاحتلال ليست أبدية، وأن التحالفات الهشّة لا تصمد أمام الواقع.

ثالثًا: فلسطين في مرمى الحسابات الجديدة

في ظل هذه التحولات، تبدو القضية الفلسطينية هي المتغيّر الأكثر حساسية. فحين تتراجع الهيمنة الإسرائيلية وتبدأ واشنطن في ضبط نفوذ تل أبيب، ينشأ فراغ سياسي يمكن أن يتحول إلى فرصةٍ تاريخية إن أحسن الفلسطينيون استثمارها.

الولايات المتحدة التي تسعى اليوم إلى اتفاقات ردع مع إيران، تحاول في الوقت نفسه تهدئة الساحة الفلسطينية، لكنها تفعل ذلك بعقلية 'إدارة الأزمات” لا 'حلّها”.

الهدف الأميركي واضح: منع انفجارٍ جديد في غزة والضفة يُربك مسار التفاهم مع طهران. ولهذا، بات الملف الفلسطيني يُدار كملف أمني وليس كقضية تحرر وحقوق.

لكن هذه المقاربة تُظهر بوضوح كيف أن الفلسطينيين أصبحوا ورقة ضغطٍ في توازنات القوة بين واشنطن وتل أبيب وطهران، لا طرفًا مستقلًا في معادلة القرار.

رابعًا: من النووي إلى القدس

حين تخشى إسرائيل فقدان احتكارها للقوة النووية في المنطقة، فإنها تُعوض ذلك بالتصعيد في الساحات الأخرى، وأبرزها القدس والضفة الغربية. فكلما ازداد الضغط الدولي عليها في الملف الإيراني، ازدادت شراستها في مواجهة الفلسطينيين، وكأنها تحاول استعادة 'هيبة الردع” المفقودة عبر دماء المدنيين.

هذا ما يفسّر موجات الاقتحام المتكررة للمسجد الأقصى، والسياسات الاستيطانية التي تصاعدت بوتيرة غير مسبوقة خلال العامين الأخيرين. فالحكومة الإسرائيلية تستخدم 'الخطر الإيراني” ذريعةً لتوحيد الداخل المنقسم، لكنها في الحقيقة توظف ذلك لتغطية فشلها في غزة وتآكل شرعيتها أمام المجتمع الدولي.

إنّ الصراع النووي في طهران ينعكس مباشرةً على المسجد الأقصى في القدس، لأن إسرائيل تُدرك أن الرمز الديني هو آخر ما يمكن أن يوحّدها بعد انهيار ثقة الجمهور بالسياسة والجيش معًا.

خامسًا: العرب بين الحذر والانتظار

العواصم العربية تتابع المشهد بصمتٍ حذر. فالتوتر بين إسرائيل والولايات المتحدة يضعها في موقفٍ معقد: من جهة، لا تريد الاصطدام بواشنطن، ومن جهة أخرى، تدرك أن إسرائيل لم تعد تملك مفاتيح الحل كما كانت.

الأردن ومصر تحديدًا يدركان أن تراجع التنسيق الأميركي–الإسرائيلي يعني فرصة لإعادة التوازن في الملف الفلسطيني، خاصة في ظل الدور المصري القوي في مفاوضات الهدنة بغزة، والدور الأردني الثابت في حماية القدس والمقدسات.

أما الدول الخليجية التي انخرطت في مسار التطبيع، فقد وجدت نفسها أمام مأزقٍ استراتيجي: هل تراهن على تحالفٍ يتصدّع، أم تعيد حساباتها باتجاه مقاربة أكثر استقلالًا تحفظ مصالحها مع الجميع؟

الجواب ما يزال معلقًا، لكن المؤكد أن القضية الفلسطينية عادت إلى مركز الحسابات الإقليمية، لا بوصفها عبئًا، بل كعامل توازن جديد.

سادسًا: الفرصة التي يجب ألا تضيع

إنّ التصدع بين واشنطن وتل أبيب لا يعني بالضرورة نصراً تلقائياً للفلسطينيين، لكنه يفتح نافذة تاريخية لإعادة بناء مشروع وطني موحد.

حين تنشغل إسرائيل بملفها النووي وعلاقاتها المتوترة مع حليفها الأميركي، يمكن للفلسطينيين أن يستثمروا هذه اللحظة في توحيد الجبهة الداخلية، وتعزيز الخطاب الدبلوماسي، واستعادة زمام المبادرة في المؤسسات الدولية.

إنّ التاريخ يعلّمنا أن لحظات التحول الكبرى تخلق فرصاً لمن يعرف كيف يلتقطها، وأن الضعف الإسرائيلي الراهن قد يكون بدايةً لمعادلة جديدة تُعيد إلى القضية الفلسطينية مركزها الطبيعي في الوجدان العربي والعالمي.

لكن هذا لن يحدث ما لم يدرك الفلسطينيون والعرب أن الصراع اليوم لم يعد على الأرض فقط، بل على السردية، والشرعية، والمعنى. ومن يملك القدرة على رواية القصة هو من يملك مفتاح المستقبل.

سابعًا: من بروكسل… حيث يُعاد تعريف الموقف الأوروبي

ومن بروكسل، حيث تُصاغ سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه الشرق الأوسط، تبدو ملامح القلق الأوروبي واضحة من تفكك التحالف الأميركي–الإسرائيلي، لما يحمله ذلك من تداعيات على أمن المنطقة واستقرارها، وعلى مستقبل العدالة في فلسطين.

فالاتحاد الأوروبي، الذي يحاول الموازنة بين القيم والمصالح، يدرك أن استمرار إسرائيل في سياساتها العدوانية سيضعه أمام اختبارٍ أخلاقي صعب، بين التزامه بمبادئ القانون الدولي وبين رضوخه لضغوط واشنطن.

إنّ ما يجري في بروكسل اليوم يعكس إدراكًا متناميًا بأن القضية الفلسطينية ليست تفصيلًا في أزمة الشرق الأوسط، بل جوهرها الأخلاقي والسياسي.

ثامنًا: من الردع النووي إلى الردع الأخلاقي

في النهاية، يمكن القول إن واشنطن تسعى إلى 'ردعٍ نووي”، بينما تسعى إسرائيل إلى 'ردعٍ نفسي”، أما الفلسطينيون فيملكون ردعًا أخلاقيًا وتاريخيًا يتجدد كل يوم في وجه الاحتلال.

وحين تتغيّر موازين القوة في المنطقة، ستكتشف أميركا وإسرائيل معًا أن الردع الحقيقي لا يُصنع بالقنابل ولا بالمفاعلات، بل بالإيمان بالحقّ والإنسان.

وهنا تكمن جوهر القضية الفلسطينية: إنها ليست قضية حدودٍ أو اتفاقات، بل قضية عدالةٍ لا يمكن لأي تفاهمٍ نووي أو سياسي أن يتجاوزها.