اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٥ تشرين الأول ٢٠٢٥
رَد حماس: تحويل مُعادَلة الضّغط إلى فُرصة
أزهر الطوالبة
يُمكن القول إنّ ردّ حركة المقاومة الإسلاميّة 'حماس' على مقترح الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب الأخير، لم يكُن مجرّدَ موقفٍ سياسيّ أو ردٍّ انفعاليّ، بل تجلّى فيه مزيجٌ فريد من الذكاء السياسيّ والقًدرة العسكريّة، بما يعكسُ تحوّل الحركة من فصيلٍ مقاومٍ مُحاصَر إلى قوّةٍ تفرضُ نفسها لاعبًا محوريًّا في معادلةِ الإقليم، وصاحبة كلمةٍ مسموعة في رسم مُستقبل القضيّة الفلسطينيّة.
منذ اللحظة الأولى، أدركت حماس أنّ الخطة الأمريكيّة لا تستهدف وقف العدوان أو إنهاء الحرب على غزة، بل إعادة صياغة المشهد الفلسطينيّ وفقَ منطق 'الإخضاع والوصاية'. لكنّ الحركة لم تنزلق إلى خطابِ الرّفض الغاضب فحسب، بل صاغت ردًّا متوازنًا يزاوج بين الثّبات على الثوابت الوطنيّة وقراءة الميدان بلغةٍ استراتيجيةٍ دقيقة. فقد وضعت المقاومة سقفًا سياسيًّا واضحًا: لا تنازل عن الحقوق، لا شرعيّة للاحتلال، ولا تسوية تُنتج كيانًا بلا سيادة.
الذكاء السياسيّ الذي اتّسم به الردّ تجلّى في أكثر من بُعد. فحماس قدّمت نفسها، للداخل الفلسطينيّ والعالم الخارجيّ على السواء، كحركةٍ مسؤولة تسعى إلى إنهاء الحرب دون التخلّي عن الثوابت. إنها تُفاوض من موقع القوّة لا من موقع الضُّعف، وتُدير الأزمة بخطابٍ يُحمِّل الاحتلالَ والولايات المتحدة مسؤوليّة استمرار العدوان، في الوقت الذي تُبقي فيه باب المبادرات مفتوحًا على قاعدة النديّة لا الإملاء.
في المقابل، لم يكن هذا الردّ مُنفصلًا عن القدرة العسكريّة التي راكمتها المقاومة في السنواتِ الأخيرة. فالتَّوازن الذي أبدته حماس بين الخطاب السياسيّ والعمل الميدانيّ ليس صُدفة، بل نتيجة إدراكٍ بأنّ السياسة من دون قوّةٍ تحميها تتحوّل إلى استجداء. المقاومة اليوم تمتلك منظومة عسكريّة مُتماسِكة، أثبتت أنّها قادرة على الصّمود في وجه آلة الحرب الإسرائيليّة، وأنّها تُدير الميدان بعقلٍ استراتيجيّ لا بعاطفةٍ ميدانيّة. هذا التوازن جعل من ردّ حماس صوتًا مسموعًا لا مجرّد بيانٍ يُضاف إلى بيانات الماضي.
ولعلّ الأهمّ في هذا المشهد أنّ الحركة، وهي تواجه أعتى تحالفٍ غربيّ وإقليميّ ضدّها، استطاعت أن تُقدّم نموذجًا مختلفًا في إدارة الصراع: مقاومةٌ تقرأ السياسة بعين المُقاتِل، وتُقاتل بعقلِ السياسيّ. ففي الوقت الّذي أصرَّت فيه إسرائيل على تحويل الحرب إلى معركة إبادة، استطاعت حماس أن تُحوّلها إلى معركة وعي، تُعيد تعريف مَن هو الضحيّة ومَن هو الجلّاد، وتكشف للعالم ازدواجية المعايير الغربيّة التي تبرّر القتل باسم الدفاع عن النفس.
إنّ الردّ على خطة ترامب لم يكن مجرّد موقفٍ من مقترحٍ سياسيّ، بل رسالة أعمق: أنّ حماس اليوم ليست حركةً محصورة في جغرافيا غزة، بل كيانٌ لهُ دور في إدارةِ الصّراعِ العالميّ على الوعي والشرعيّة. وأنّ الذكاء السياسيّ الذي أدار به قادتها هذا الملف هو الوجه الآخر للقدرة العسكريّة التي فرضت حضورها على الأرض.
وفي المحصّلة، يمكن القول إنّ حماس نجحت في تحويل معادلة الضغط إلى فرصة، وفي جعل كلّ طرحٍ سياسيّ جديدٍ محكومًا بمعادلة المقاومة لا بمُعادلَة التسوية. فالردّ الذي صاغته لم يكن مجرد بيانٍ في سياق أزمةٍ آنية، بل وثيقة موقفٍ تؤسّس لمرحلةٍ جديدة من الوعي الفلسطينيّ، تُعيد الاعتبار للمقاومة باعتبارها الفاعل الأصيل في مُعادلة التحرّر، والضّامن الوحيد لعدم سقوط القضيّة في فخّ الوعود الأمريكية المُتكرّرة.
إنّ المرحلة المقبلة تقتضي من حماس أن تُحوّلَ هذا الردّ السياسيّ الذكيّ إلى منصّة دائمة للحوار الوطنيّ والميدانيّ، بحيث يُعاد بناء البيت الفلسطينيّ على قاعدة المقاومة لا على وهم التسوية. فالمطلوب اليوم ليس فقط الحفاظ على الموقف، بل مأسسته ضمن رؤيةٍ استراتيجية تُنظّم العلاقة بين الفعل العسكريّ والسياسيّ والإعلاميّ، وتُنتج خطابًا فلسطينيًّا موحّدًا يعيد تعريف المشروع الوطنيّ في ضوء المُتغيّرات الراهنة.
على الحركة أن تُواصل هذا النهج المتّزن، وأن تستثمر ما راكمته من قوّةٍ ميدانيّة في فرض معادلةٍ جديدة على العالم، معادلةٍ تُدرك فيها القوى الدوليّة أنّ أيّ حلّ لا يُراعي الحقوق الفلسطينيّة سيكون هشًّا وعاجزًا عن الصمود. فالقوّة الحقيقيّة لا تُقاس بعدد الصواريخ أو البيانات، بل بقدرة القيادة على تحويل النصر الميدانيّ إلى مكسبٍ سياسيٍّ مُستدام، وهو ما يبدو أنّ حماس تتّجه نحوه بوعيٍ متقدّمٍ ورؤيةٍ متوازنة.
وبهذا، يُمكن القول إنّ ردّ حماس لم يكن نهاية موقف، بل بداية مسارٍ جديدٍ، تُعيد فيه المقاومة صياغة المشهد الفلسطينيّ والإقليميّ على نحوٍ أكثر نضجًا وفاعليّة، حيث تلتقي القدرة العسكريّة بالذكاء السياسيّ في مشروعٍ واحد: مشروع التحرّر الحقيقيّ لا التفاوض على الهامش.