اخبار الاردن
موقع كل يوم -وكالة رم للأنباء
نشر بتاريخ: ٢٩ أيلول ٢٠٢٥
رم -
في الكثير من دول العالم يحظى الفن بأهمية انسانية محلية وعالمية كبيرة وبالغة ، حيث يعد من أهم أعمدة الحضارة الإنسانية ، ويعتبر كوعاء حسي يحتضن التراث الخاص لشعب ما أو قومية ، وهو ما يوصف بأنه مرآة الشعوب ، فمن الفن تفتقت الكثير من مكنونات النفس على عدة أبعاد ، وبالفن يُستعرض موروث الشعوب وحضاراتهم وتاريخهم وأبطالهم ومجدهم الممتد من جيل إلى جيل عبر كل أدواته ( المرئي منها والمسموع والمقروء ) والتي تحتل بطبيعة الحال مرتبة هامة ذات أولوية في الخطط الوطنية.
الفن هو ذاكرة الوطن بأكمله ، وصوت ماضيه ، ولسان حاضره ، وذراع لا غنى عنه ؛ يُسخره الوطن ليدافع به عن هويته وتراثه وإرثه ومستقبله من كل مؤامرات التشرذم والتهكم والأدلجة والاستبدال والإحلال والمحاصصات ليبقى متماسكاً ومنيعاً.
وقد يبدو الفن في عيون البعض ، ضرباً من ضروب الرفاهية ، إلا أنه سلاح ذو حدين ، فالفن ينقل رسالة خطيرة ومشوهة وإقصائية إذا أصبح موجهاً لغايات ( كالطمس والتخوين والتشكيك والمناكفات وغيرها ) وإذا تسلق من خلاله المؤدلجون ، ولكن على الوجه الآخر المشرق والصحيح يعد بمثابة الناطق غير الرسمي بصوت الدولة والشعب حيث ينقل اللهجة والعادات وذكريات الأجيال في الماضي وتحدياتهم في الحاضر ويعزز الهوية الوطنية ويؤكدها وفي دول عدة لطالما استخدم الفن لشحذ الهمة وإعادة تجسيد انتصارات مهمة ، وتهيئة الشعب وبناء النشء وغرس معاني الولاء والوطنية وتوسعة دائرة الموالين واحتضانهم ، وارسال وتمرير مواقف الدول بالموسيقا والتمثيل أو حتى السينما ( الفن السابع ).
ولأننا في الأردن لدينا الكثير من التحديات ، التي لم يُعفى حتى الفن من الإصابة بها ، فنحن نفتقد إلى أهم ركيزة في القطاع الفني الأردني : وهي وضع الأطر والخطوط العامة المنظمة للمتاح والمطلوب والمحظور ، فإذا عُرف السبب بطل العجب ، عندما يُعرف المتاح والمطلوب على مستوى الفنان كشخص مؤهل والعمل الفني كمصنف فسنتوقف عن كل مراءاة النقاش وتراشقات الاستحقاق وفظاعة التصريحات ودعوات التقصير ، عندما نعيد الأمور إلى نصابها الصحيح ونتعامل مع الفن الأردني كما تفعل كل دولة تجاه هويتها بأن هذا العمل المعروض على الشاشات المحلية ( القطاع العام والخاص ) تحت مسمى مسلسل أردني أو مسرحية أردنية أو برنامج أردني أو حتى فيلم هو العمل المؤدى ضمن حدود هويتنا الوطنية الأردنية وإرثنا التاريخي فقط لا غير ، وإن أية خروقات عن هذا السياق فهي تحت طائلة المسؤولية القانونية وبذلك نكون قد رسمنا القواعد المنظمة لحدود العمل الأردني فنياً.
أما فيما يتعلق بالمؤدي أو المعني عموماً بتقديم العمل فلنا في دولة مصر الشقيقة أسوة حسنة حيث وضعت حداً للسيل الجارف القادم من المؤثرين عبر شبكات التواصل الاجتماعي المتعددة ، ومنعت المشاركة في أي عمل فني لكل من لا يمتلك عضوية في كل من نقابتي المهن التمثيلية والمهن الموسيقية ، ومن يشارك من هؤلاء فسيتعرض المعنيين بدءاً من المؤثر المشارك وفريق الإنتاج الخاص بالعمل لغرامة قدرها مليون جنيه مصري ناهيك عن العقوبات القضائية الأخرى والتي تقدر من قبل القضاء ، على اعتبار أن مشاركتهم بمثابة تعد ٍ على المهنة وخطر على الفن المصري.
الجميل في الأمر لم تنظر النقابات الفنية والجهات المعنية في أرض الكنانة وبلد الفن والعلم وأم الدنيا إلى المؤثرين بنظرة عاطفية أو تقييمات فزعوية ( فلان موهوب / محترم / فلان اشتغل على حاله / هذا تقييد للإبداع ) ، بل منحت الصلاحية لأصحاب الاختصاص فقط المنتمين للنقابة والذين هم بطبيعة الحال يخضعون لامتحانات اختبار أداء ، ناهيك عن أن نسبة كبيرة منهم من خريجي معهد السينما العالي .
وفي الأردن لدينا الكثير من الفنانين الحقيقيين الذين هم ليسوا من الهواة ، بل هؤلاء من يمثلون الأردن فنياً خير تمثيل وهم حراس الهوية الوطنية الأردنية على المحور الفني والمستوفون لشروط الأداء.
ولست أشعر بالانزعاج عند ذكر مثال مصر بل على العكس ، فهي سباقة في الكثير من القوانين والأنظمة والتعليمات ، وحتى في دولة الإمارات العربية الشقيقة هي الأخرى قد وضعت مجموعة من القواعد التي تضبط حدود الظهور على الشاشات ( كبرامج وأعمال فنية ) بدءاً من اللهجة والمظهر وغيرها بشكل يحفظ تاريخها وثقافتها مع وجود التنوع الهائل على أرضها بصفتها وجهة عربية وعالمية متميزة وجاذبة للسياحة والاستثمار ، إلا أنها استطاعت أن تحمي هويتها من خطر التخبط والتفكك.
ولكن الأمر الذي يزعجني أن يصل حال الفن الأردني إلى ما وصل إليه ، فقد افتتحت الإذاعة والتلفزيون عام 1968 وكان كل استوديو فيها لعقود من الزمن شاهداً على أجمل اللوحات الفنية المحلية والعربية ، التي نقلت تراثنا وتاريخنا وهويتنا ، بل وحتى أجمل الأعمال السورية كمسلسلات ذياب مشهور ودريد لحام وغيرهم كانت تصور داخل التلفزيون الأردني ، وحتى وقت لاحق ظلت المسلسلات الأردنية الأكثر طلباً محلياً وعربياً ( بشكل كبير في نطاق سوريا والخليج وليبيا وغيرها ) ، بل أنها ما زالت حتى يومنا هذا تعرض على القنوات الليبية دون كلل أو ملل رغم تقادمها.
لذا فعلينا اليوم وضع نهج منظم للعمل الفني يضبط حدود هذا العمل ( فرداً وفكرة وسيناريو ومضمون ) ، بشكل لا يثير حفيظة الأردنيين ، أو يجعل من تاريخ هذا الشعب الطيب وهويته وتراثه الممتد ملقى على الهامش أو يشكو من التذويب فهذا قطعاً مرفوض في الوعي الجمعي الأردني وفي كل نواميس الشعوب ..
فداء المرايات