اخبار الاردن
موقع كل يوم -وكالة رم للأنباء
نشر بتاريخ: ٢٧ تموز ٢٠٢٥
رم - بقلم: أ.د. خالد واصف الوزني
لم يعد اتخاذ القرار الاستهلاكي أو الإنتاجي على المستوى الفردي أو المؤسسي في العصر الحديث يقتصر على ما اعتنقه الفكر الاقتصادي على مدى تاريخه والقائم على الرُشْد والعقلانية، وعلى تعظيم المنافع أو العوائد. بل بات اليوم، ومنذ سبعينيات القرن المنصرم على الأقل، يتجاوز ذلك ليعتمد على ما تتأثر به النفس البشرية من مؤثرات نفسية وسيكولوجية. وفي هذا السياق جاء كتاب 'الاقتصاد السلوكي' للمفكر الكندي ديفيد أوريل David Orrell ليفتح نافذة واسعة أمام صنّاع القرار العام والخاص، التجاري والحكومي، في مجال النفاذ إلى أذواق البشر وتحقيق أفضل النتائج، وليقترح مقاربات أكثر واقعية لفهم السلوك الاقتصادي تقوم على علم النفس، والعاطفة، والتفكير الحدسي. ينطلق أوريل من أنَّ البشر يتخذون قرارتهم غالباً تحت تأثير الانفعالات، والانحياز المعرفي، والضغوط الاجتماعية، والبيئة التي يُعرض فيها الخيار. وفي معرض ذلك يُقدم الكاتب شرحاً مختصراً لنظرية 'الأنظمة الثنائية' في التفكير عند اتخاذ القرارات، والتي تعتبر ركيزة مفهوم الاقتصاد السلوكي، والأساس الذي أدى إلى الوصول إلى جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2017. حيث يقوم النظام الأول على التفكير السريع والعاطفي القائم على المؤثرات السيكولوجية على النفس البشرية، في حين يعتمد النظام الثاني على التفكير البطيء والمنطقي، القائم على العقلانية ودراسة البدائل والمنافع والعوائد. ويُثبت المؤلف أن الغالبية العظمى من قراراتنا اليومية يحكمها النظام الأول، بما في ذلك قراراتنا المالية الاستهلاكية. من هنا تظهر أهمية ما يُعرف بـ'تحفيز السلوك' أو ما يُسمى اصطلاحاً Nudging، وهو مفهوم يشير إلى إمكانية توجيه سلوك الأفراد نحو خيارات ما عبر تغييرات بسيطة في كيفية عرض المنتجات من السلع والخدمات، بالنسبة للقطاع الخاص، أو عبر أساليب ومعطيات وحوافز ترغيبية أو تحذيرية في حالة تطبيق القوانين أو السياسات العامة. وفي هذا الصدد يستعرض الكتاب مجموعة من التجارب المذهلة في توجيه العامة نحو خيارات يرغب بها صاحب المصلحة، حكومة كان أم مؤسسة، عبر التحفيز السلوكي، بأدواته المتنوعة المؤثرة على الإدراك الفردي، ما يثبت أن السلوك الاقتصادي لا يخضع فقط للمنطق، بل يتأثر بشكل مباشر بعوامل نفسية وعاطفية. الشاهد مما سبق أن لدى صنّاع القرار حول العالم أدوات جديدة تضمن تحقيق أهدافهم لدى العامة دون إجبار أو منع، وهي أدوات الاقتصاد السلوكي، القائمة على السيكولوجية النفسية وتوجيه الإدراك السلوكي. وتعتبر وحدة التأثير السلوكي المرتبطة مباشرة برئيس الحكومة البريطانية، أولى المبادرات الحكومية الناجحة عالمياً في تطبيق التحفيز السلوكي في الشأن العام، وقد كان لتلك الوحدة الأثر النوعي الكبير في التصويت لصالح الانفصال عن الإتحاد الأوروبي، أو ما عُرِفَ Brexit. وقد اعتبرت هذه الوحدة الحكومية من أكثر التجارب العالمية نجاعة ونجاحاً في استخدام أدوات التحفيز السلوكي Nudging عبر بث ونشر الرسائل غير المباشرة، بل ونثر المعلومات، بالطريقة التي تناسب صاحب القرار، والمؤثرة في سلوكيات الجمهور، والمُحفزة سلوكياً نحو التصويت الذي تريده الحكومة، دون حتى أن يشعر العامة أن هذا هو رأي الحزب الحاكم، أو أن تلك الرسائل موجهة من قبل الجهات الرسمية، وهو ذكاء نوعي في استخدام التحفيز السلوكي.مفهوم الاقتصاد السلوكي والبصائر السلوكية يضع أمام صنّاع القرار ثلاثة رسائل محددة. الأولى لا بد من فهم وتحليل الدوافع النفسية والسلوكية للعامة إن أردنا تحقيق النجاح المنشود من تطبيق والإلتزام بالسياسات العام. والثانية إنَّ اعتماد نهج 'التحفيز السلوكي' يمكن أن يُحدث فرقًا كبيرًا في كفاءة الخدمات الحكومية ويجعلها مقبولة ومرغوبة من العامة. والثالثة والأهم أنَّ على الحكومات حول العالم إنشاء مختبرات للبصائر السلوكية، وتوظيف فِرَق لتحليل السلوك البشري قبل اعتماد، أو إطلاق، أو الخروج بأي سياسة، أو تشريع، أو إجراء، إن ارادت الحكومات تحقيق الهدف المنشود.توجيه العامة عن بعد عبر ما تخرج به مختبرات السياسات السلوكية له أثر سحري عميق، وقد أنشأت كل من بريطانيا، وأمريكا، وكندا، وألمانيا، وسنغافورة، والعديد من دول العالم ما يُسمى وحدات البصائر السلوكية Nudge Units أو مختبرات البصائر السلوكية، وربطتها بأعلى مستويات صنع القرار الحكومي، بهدف توجيه المجتمع وضمان إلتزامه بهنج الدولة، كما انتهجت كل من دولة الإمارات، والسعودية، وقطر، والكويت، ولبنان مقاربات مؤسسية متنوعة في مجال وحدات ومختبرات البصائر السلوكية بهدف استخدام التحفيز السلوكي في توجيه المجتمعات، وفي تحقيق أهداف السياسات العامة عن بعد.والمحصلة إنَّ وحدات البصائر السلوكية باتت توجه رسمي ريادي لتحقيق أهداف الحكومات حول العالم.
أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية