اخبار الاردن
موقع كل يوم -وكالة رم للأنباء
نشر بتاريخ: ٣ تشرين الثاني ٢٠٢٥
رم -
الدكتور ليث عبدالله القهيوي
في عالم يتغير أسرع مما نتوقع، لم تعد الريادة ترفًا في برامج التنمية، بل ركيزة للبقاء وصناعة المستقبل. فالاقتصاد الجديد لا يُبنى على الموارد الطبيعية بقدر ما يقوم على العقول القادرة على الابتكار وصناعة الحلول.
تشير تقارير دولية إلى أنّ أكثر من 665 مليون رائد أعمال يسعون لتحويل أفكارهم إلى مشاريع واقعية، فيما تفشل نحو 90٪ من الشركات الناشئة خلال السنوات الخمس الأولى. هذه الأرقام لا تُحبط، بل تكشف حقيقة الريادة بوصفها مسار بقاء وتفوّق، لا يكسبه إلا من يفكّر بعقلٍ عالمي ويعمل بجذورٍ محلية.
في العالم العربي، ما زالت الريادة أسيرة مبادرات جزئية وخطابات تحفيزية، بينما الحاجة الفعلية هي تحوّل مؤسسي يجعلها جزءًا من السياسات العامة لا مجرّد مبادرات فردية. الريادة هنا ليست تأسيس مشروع صغير فحسب، بل إعادة تعريف العلاقة بين الشباب والدولة، وبين الفكرة والفرصة، وبين الطموح والتمكين. نحن بحاجة إلى بيئة تعتبر الفشل خطوةً في مسار التعلّم، وإلى منظومات تشريعية وتمويلية تحرر الطاقات بدل أن تقيدها.
وفي الأردن، حيث تضيق الموارد وتتسع الأحلام، تبرز الريادة كأقصر الطرق إلى التمكين الاقتصادي والاجتماعي. لقد أثبت الشباب الأردني قدرته على المنافسة عالميًا في التكنولوجيا والابتكار وريادة الأعمال؛ وما ينقصه ليس الكفاءة، بل البيئة الحاضنة التي تُترجم الإبداع إلى أثر. حين نُعيد تعريف التعليم، ونبني ثقافة تقدّر المحاولة، ونحوّل الدعم من مبادرات موسمية إلى سياسات وطنية مستدامة، يصبح الريادي الأردني نموذجًا يُحتذى عربيًا.
لكن الريادة الحقيقية لا تنفصل عن الاستراتيجية الوطنية واستشراف المستقبل. فالأمم التي تتقدم لا تكتفي بتحفيز الإبداع، بل تضع له بوصلة تتجه نحو أسواق الغد، لا أسواق الأمس. ومن هنا تأتي أهمية التفكير الاستراتيجي الذي يربط التعليم والمهارات وريادة الأعمال برؤية وطنية تستند إلى معطيات المستقبل، لا إلى حدود الحاضر. فالعالم يتجه نحو اقتصاد رقمي، وذكاء اصطناعي، ووظائف لم تُخلق بعد، ما يفرض علينا إعادة تصميم منظومة التعليم والتدريب لتواكب هذه التحولات.
لم يعد السؤال: كم عدد الخريجين؟ بل: ما نوع المهارات التي يمتلكونها؟ إن بناء رأس مال بشري قادر على الإبداع والتكيف يتطلب تعليمًا تقنيًا ومهنيًا متطورًا، وشراكات فاعلة بين الجامعات والقطاع الخاص، ومختبرات ابتكار وحاضنات أعمال تربط المعرفة بالإنتاج. فالمستقبل لا يحتاج إلى باحثين عن وظيفة بقدر ما يحتاج إلى صانعي وظائف.
إن دمج الريادة في منظومة التعليم ليس رفاهية أكاديمية، بل استثمار استراتيجي طويل الأمد. حين يصبح التفكير النقدي، والتصميم، والبرمجة، وريادة الأعمال مهارات أساسية منذ المراحل الدراسية المبكرة، نكون قد وضعنا الأساس لمجتمع منتج، لا مستهلك، ومبدع، لا مقلِّد. وهنا تتجلّى مسؤولية الدولة والقطاع الخاص والمؤسسات الأكاديمية في صياغة عقدٍ جديد بين التعليم وسوق العمل، يقوم على التنبؤ بالتغيّرات لا اللحاق بها.
وفي إطار التحوّل الوطني نحو اقتصاد المعرفة، تصبح الريادة محورًا رئيسيًا في بناء رؤية مستقبلية للدولة، فهي ليست مجرد مبادرات شبابية، بل أداة استراتيجية لإعادة توزيع الأدوار بين الحكومة والسوق والمجتمع. فحين تُمكن الجامعات من أن تكون مراكز ابتكار لا مؤسسات تلقين، وتُمنح الشركات الناشئة بيئة حاضنة ضريبية وتشريعية مرنة، يصبح الريادي شريكًا في التنمية، لا طالبًا للدعم.
استشراف المستقبل هنا ليس تمرينًا نظريًا، بل ممارسة يومية في التخطيط واتخاذ القرار. فالذكاء الاصطناعي، وسلاسل الكتل، وإنترنت الأشياء، كلها مسارات جديدة للاقتصاد الحديث تتطلب جيلًا جديدًا من المهارات: تحليل البيانات، التفكير المنظومي، القيادة الرقمية، والقدرة على التكيّف السريع مع التغيرات. ومن دون تعليم يزرع هذه المهارات في العقل العربي منذ الصغر، سنظل مستهلكين لتقنيات الغير، لا صانعين لها.
لذلك، فإن الاستثمار الحقيقي ليس في المباني أو المشاريع الكبرى، بل في بناء عقلٍ ريادي استشرافي يرى في التغيير فرصة، لا تهديدًا. حين يصبح التعليم مسارًا نحو الابتكار، والريادة ثقافة مجتمعية، والتقنية وسيلة تمكين، تتحول الفكرة الصغيرة إلى مشروع وطني والمواطن العادي إلى رائدٍ في صناعة الغد.
العالم لا ينتظر أحدًا. وفي زمنٍ تتحوّل فيه الأفكار إلى «عملة» جديدة، ليس الرهان على النفط أو المال، بل على الإنسان. فالريادة مسؤولية وطنية؛ ومن يؤمن بها لا ينتظر الظروف بل يصنعها.












































