اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٥ تشرين الثاني ٢٠٢٥
نيويورك تُغيّر وجهها: فوز ممداني وارتجاج مراكز النّفوذ الأميركيّة #عاجل
كتب أزهر عبدالله طوالبة -
في مشهدٍ سياسيٍّ لم تألفه الولايات المتحدة منذ عقود، تقدّم زهران ممداني إلى المنصّة، ليُعلن فوزًا بدا، في حقيقته، أكثر من مجرّد انتقالٍ في المناصب. كان الحدثُ، بمعناه الأوسع، انقلابًا على تقاليد السلطة الأمريكية، وعلى أباطرة السياسة والمال الذين صنعوا لأنفسهم جدارًا منيعًا يمنع المختلفين عن الصعود إلى واجهة القرار. لقد جاء فوزه صاعقًا لمن اعتادوا أن تكون المناصب العليا حكرًا على أبناء النّخب المالية والسياسية، لا على ابن مهاجرٍ إفريقيّ الأصل، مسلمٍ، اشتراكيّ الميول، جاهر بموقفه دون تردّد أو مداراة.
هذا النصر لم يكن مجرّد مفاجأةٍ انتخابيّة، بل كان زلزالًا سياسيًا أعاد توزيع موازين القوّة في الداخل الأمريكي. فممداني، بخلفيّته الفكريّة والطبقية، لا يُمثّل استمرارًا للمنظومة، بل تمرُّدًا عليها. إنّ وصوله إلى سدّة بلدية نيويورك — المدينة التي طالما وُصفت بأنها عاصمة المال العالميّ، وموئل الطبقة الليبرالية الثرية — يعني أن الصوت القادم من الشارع الشعبيّ، من المهاجرين، من العمال وصغار الكسبة، قد نجح أخيرًا في اختراق حصون المال والنفوذ. وهو بهذا المعنى، لم ينتصر على منافسيه في الصندوق فحسب، بل على منظومةٍ سياسيةٍ متجذّرة، طالما احتكرت السلطة تحت عناوين الواقعية والإجماع.
خطاب النصر الذي قدّمه ممداني كان صريحًا في تحدّيه لهذه المنظومة. لم يُخفِ موقفه، ولم يسعَ إلى طمأنة الأسواق أو كسب رضا وول ستريت. على العكس، بدا واثقًا وهو يقول: 'أنا مسلم، أنا اشتراكي ديمقراطي، وأرفض الاعتذار عن هذا'. كانت عبارته هذه بمثابة إعلان استقلال سياسيّ عن طبقةٍ اعتادت أن تصوغ الخطابات على مقاس المستثمرين لا المواطنين. لقد وضع نفسه، منذ اللحظة الأولى، في صفّ الطبقات المهمّشة، في مواجهة أباطرة المال الذين يرون في أيّ صوتٍ شعبيٍّ خطرًا على توازناتهم.
وقد بدا واضحًا أنّ هذا الفوز، بكل ما يحمله من رمزيةٍ سياسية، سيكون له أثرٌ مباشر على مسار السياسة الداخلية في الولايات المتحدة. فصعود ممداني في قلب أكبر مدينة أميركية يعني أنّ 'الخطاب اليساريّ الاجتماعيّ' لم يعُد ترفًا فكريًا، بل أصبح خيارًا سياسيًا قابلًا للتحقّق. وهو ما يُثير قلق القوى التقليدية في الحزبين الكبيرين، إذ يشير إلى تصدّعٍ في منظومة الولاءات القديمة، وعودةِ النزعة الشعبوية التقدمية التي تُذكّر بأيام برني ساندرز وبدايات الموجة الاشتراكية الجديدة.
أما أباطرة المال والإعلام الذين واجهوه بهجماتٍ، بعضها مُبطّن وبعضها مُعلَن، طوال حملته، فقد تلقّوا النتيجة كصفعةٍ مزدوجة: الأولى لأنّهم خسروا المعركة رغم كلّ ما أنفقوه، والثانية لأنّ فوزه كشف حدود سطوتهم في زمنٍ بدأت فيه الجماهير تفقد ثقتها في لغة المصالح الكبرى. لقد أرادوا أن يُسقطوه بتخويف الناس من أفكاره، فإذا بالنّاس يصعدون به ليُصبحَ رمزًا لأملٍ جديدٍ في مدينةٍ كانت تُختزل طويلًا في صورة الأبراج والمصارف.
سياسيًا، يحمل فوز ممداني رسالة تتجاوز نيويورك. فإعادة الاعتبار للمهاجر، ولصاحب الصوت المُختلِف، وللتيارات اليسارية التي كانت تُقصى تحت ذريعة 'الخيال السياسي'، يعني أن بنية الحكم الأميركي بدأت تعرف أولى علامات التحوّل. ليس في الأشخاص فحسب، بل في المفاهيم التي تحكم العلاقة بين السلطة والمجتمع. لقد نجح في إحداث شرخٍ داخل الخطاب الأميركي التقليديّ الذي لطالما قسّم الناس إلى فئتين: من يُحكمون، ومن يُدارون.
ولعلّ أكثر ما يُخيف خصومه أنّ فوزه لم يكن طارئًا أو صدفةً انتخابية، بل نتاج وعيٍ جماهيريّ متنامٍ يرفض استمرار احتكار القرار بيد قلّةٍ ثريّة. هذا الوعي هو التحدّي الحقيقي أمام أباطرة المال والسياسة، لأنّه يُهدّد الأساس الذي قامت عليه الديمقراطية الأميركية الحديثة: ديمقراطيةٌ تُدار برأس المال وتُزيَّن بالخطاب. أما الآن، فقد أصبح للناس، فعلًا، من يُمثّلهم، لا من يتحدّث باسمهم.
إنّ فوز زهران ممداني هو، في جوهره، انقلابٌ ناعم على نظامٍ سياسيٍّ طال عمره. فبعد عقودٍ من 'الوسطية الموجَّهة'و'الإصلاح المحسوب'، جاء صوته ليقول إنّ المدينة يمكن أن تُدار بالعقل والضمير لا بالصفقات. وربّما لهذا السبب تحديدًا، كان خطاب النصر عنده بيانًا أخلاقيًا بقدر ما كان خطابًا سياسيًا، يذكّر الأميركيين أنّ الديمقراطية ليست امتيازًا للنخبة، بل حقًّا للجموع التي أنهكها الجوع واللامساواة.
وبينما تتوجّس النخبة من هذا القادم الجديد، فإنّ صدى فوزه يمتدّ أبعد من نيويورك: إلى الكونغرس، إلى الحزبين الكبيرين، إلى غرف التمويل ومراكز القرار. لقد دخلت أميركا – عبر بوابة ممداني – مرحلة مراجعةٍ عميقةٍ لما تعنيه السلطة حقًّا، ولمن تُمنح، وكيف تُمارس. وفي هذا كله، يكمن جوهر النصر الحقيقي: أنّه لم يهزم خصومه في السياسة فقط، بل هزم الفكرة التي كانت تُسوّق منذ عقودٍ بأنّ المال هو الذي يقرّر من يحكم.












































