اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ١٣ أب ٢٠٢٥
مؤشر أسعار المستهلك الأمريكي: بين مصداقية البيانات وواقع الضغوط التضخمية
د. عدلي قندح
في قلب المشهد الاقتصادي الأمريكي، يواصل التضخم تشكيل معضلة متعددة الأبعاد، تتجاوز مجرد ارتفاع الأسعار لتشمل جدلاً متصاعدًا حول موثوقية البيانات التي تحدد ملامح الواقع الاقتصادي. ومع تزايد الأعباء الناتجة عن الرسوم الجمركية الواسعة النطاق، وتراجع جودة آليات جمع البيانات الإحصائية، أصبح مؤشر أسعار المستهلك محاطًا بقدر من الضبابية والارتباك يجعل تفسيره مهمة تتجاوز نطاق الحسابات التقليدية. ويستعرض هذا التحليل عمق التداخل بين السياسة، والمنهجيات الإحصائية، والنظريات الاقتصادية في قراءة التضخم الأمريكي لشهر يوليو 2025، وكيف أصبح هذا المؤشر أكثر من مجرد رقم يُسجَّل على الورق.
أهمية المؤشر وإطار التحدي الراهن
يُعد مؤشر أسعار المستهلك (CPI) أحد المؤشرات الاقتصادية الأكثر اعتمادًا في تقييم التضخم وتكاليف المعيشة، ويشكل أداة أساسية لصانعي السياسات النقدية في تحديد توجهاتهم. غير أن تقرير يوليو 2025 يمثل حالة استثنائية، إذ يجمع بين إشكاليات منهجية وإدارية معقدة وأبعاد اقتصادية نظرية تستدعي قراءة متعمقة ومتأنية.
جودة البيانات… حجر الزاوية في موثوقية المؤشرات
يقوم مؤشر أسعار المستهلك على بيانات ميدانية دقيقة لأسعار سلة تمثيلية من السلع والخدمات، موزعة جغرافيًا وقطاعيًا. إلا أن قرار مكتب إحصاءات العمل الأمريكي (BLS) منذ أبريل 2025 بتقليص عمليات جمع البيانات من ثلاث مناطق حضرية رئيسية تمثل نحو 3.6% من العينة، وتقليص عمليات الرصد بنسبة 15% في مناطق أخرى، نتيجة خفض الميزانية والموارد، مع الاعتماد المتزايد على التقديرات الإحصائية (Imputation) بدلاً من الرصد المباشر للأسعار، أثار مخاوف بشأن دقة المؤشر وتذبذبه.
ورغم أن التأثير الإجمالي على معدل التضخم الكلي يُقدَّر بحوالي عشر نقطة مئوية فقط، إلا أن هذه التعديلات ترفع من تقلب المؤشرات الفرعية وتحد من موثوقية قراءة الاتجاهات الشهرية على المستويين الجغرافي والقطاعي، مما يصعّب على صانعي القرار قراءة المشهد بدقة عند اتخاذ قرارات حساسة قائمة على مؤشرات التضخم الجزئية.
التأثيرات الاقتصادية المباشرة
على أرض الواقع، لا تزال الرسوم الجمركية الواسعة التي فرضتها الإدارة الأمريكية تضغط على الأسعار، خاصة في السلع الاستهلاكية، رغم التراجع في أسعار الغاز وانخفاض وتيرة الطلب الاستهلاكي. ومن المتوقع أن يسجل مؤشر أسعار المستهلك لشهر يوليو ارتفاعًا بنسبة 0.2% على أساس شهري، و2.8% على أساس سنوي.
طبيعة التضخم: تكلفة مقابل طلب
تُصنَّف الضغوط التضخمية تقليديًا ضمن نوعين رئيسيين:
تضخم مدفوع بالتكلفة (Cost-Push Inflation): ناجم عن ارتفاع تكاليف الإنتاج مثل أسعار المواد الخام أو الرسوم الجمركية، ويظهر بوضوح في تقرير يوليو حيث رفعت التعريفات الجمركية تكاليف مجموعة واسعة من السلع.
تضخم مدفوع بالطلب (Demand-Pull Inflation): يحدث نتيجة زيادة الطلب الكلي مقارنة بالعرض، وغالبًا ما يرتبط بفترات نمو اقتصادي قوي أو سياسات توسعية. وفي يوليو 2025، ظل الطلب على بعض الخدمات ضعيفًا، ما حدّ من التضخم في تلك القطاعات، بينما بقيت الضغوط الخارجية على السلع هي العامل المهيمن.
هذا المزيج يعقد مهمة السياسة النقدية، إذ إن رفع أسعار الفائدة لمواجهة التضخم القائم على التكلفة قد يضر بالنمو الاقتصادي دون معالجة السبب الجذري.
مدارس فكرية متباينة
المدرسة النقدية: تربط التضخم مباشرة بالعرض النقدي، وتدعو للسيطرة على نمو الكتلة النقدية.
المدرسة الكينزية: تنظر للتضخم كنتيجة لاختلالات في الطلب والعرض، وترى في السياسات المالية أداة أساسية للتعامل معه.
البعد السياسي والإداري
أثار توقيت إقالة الرئيس ترامب لرئيسة مكتب إحصاءات العمل الأمريكي، بالتزامن مع نشر التقرير، قلقًا بشأن استقلالية العمل الإحصائي وجودة البيانات، خاصة بعد تعديلات جوهرية في بيانات سوق العمل أضعفت ثقة المستثمرين. هذه التوترات السياسية والإدارية تفرض ضغوطًا إضافية على شفافية وموثوقية البيانات التي تعتمد عليها السياسات الاقتصادية.
انعكاسات على السياسة النقدية والأسواق
ارتفاع التضخم إلى 2.8%، متجاوزًا الهدف البالغ 2%، قد يدفع الاحتياطي الفيدرالي لرفع أسعار الفائدة، لكن طبيعة التضخم (المبني على التكلفة) تحد من فاعلية هذا الخيار. الأسواق المالية، ولا سيما السندات، ستبقى حساسة لتوقعات أسعار الفائدة، بينما قد تتعرض الأسهم لضغوط جراء ارتفاع تكاليف الاقتراض. كما سيؤثر تغير سعر الفائدة على الدولار وتدفقات رؤوس الأموال، ما قد يفاقم الضغوط على الأسواق الناشئة.
الأبعاد العالمية
أي رفع للفائدة الأمريكية قد يعجّل بخروج رؤوس الأموال من الاقتصادات النامية، مما يزيد من تقلبات الأسواق العالمية ويهدد الاستقرار الاقتصادي الدولي.
توصيات استراتيجية
1.تعزيز جودة البيانات: الاستثمار في تحديث آليات جمع البيانات، وتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي لزيادة الدقة وتقليل الاعتماد على التقديرات.
2.مرونة السياسة النقدية: تبني نهج يستوعب طبيعة الضغوط التضخمية مع تحسين التواصل عبر التوجيه المستقبلي (Forward Guidance).
3.تنسيق دولي: تعزيز التعاون بين البنوك المركزية والمؤسسات الدولية لتقليل حدة الصدمات في الأسواق.
خاتمة
يمثل تقرير مؤشر أسعار المستهلك لشهر يوليو 2025 اختبارًا حقيقيًا لقدرة الاقتصاد الأمريكي على الموازنة بين دقة البيانات وواقع الضغوط التضخمية المتعددة المصادر. إن تبني سياسات اقتصادية شفافة ومتوازنة، وضمان استقلالية المؤسسات الإحصائية، يعدان شرطين أساسيين للحفاظ على استقرار الأسعار، وحماية القوة الشرائية، ودعم النمو المستدام محليًا وعالميًا.