اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٢١ تشرين الأول ٢٠٢٥
الناجون من الإبادة في غزة: يعودون إلى ركام منازلهم بحثا عن الحياة
في مشاهد موجعة ومتناقضة، عاد آلاف الناجين من الإبادة إلى مناطقهم في قطاع غزة بعد الإعلان عن توقف الحرب، وسماح الاحتلال لهم بالوصول إلى أماكن سكناهم، ليجدوا أنفسهم أمام أطلال منازلهم، وركام ذكرياتهم، وأحياءٍ تغيّرت ملامحها بالكامل.
لم تكن العودة عودةً إلى الديار، بل إلى الفراغ. البعض افترش الأرض حيث كان سقف بيته، وآخرون جلسوا فوق أنقاض حجرات الطفولة. المشهد العام يختزل المعاناة: بيوت مهدّمة، خدمات غائبة، وبنى تحتية منهارة. أما الناجون من الإبادة، فعادوا لا ليستعيدوا ما فُقد، بل ليعيدوا تعريف الحياة من نقطة الصفر.
الدمار هنا لم يكن في الحجارة فقط، بل في الروح الجماعية التي تحاول اليوم أن تلتقط أنفاسها وتلملم شتاتها، في انتظار إنصافٍ دولي لا يزال خجولًا. وفي ظل شحّ المساعدات وانعدام مقوّمات الحياة الأساسية من ماء وكهرباء وغذاء، يتعالى الناجون من الإبادة على الألم كما اعتادوا، مصرّين على البقاء والصمود، رغم الفقد والتشريد.
لم تسلم البنية التحتية الأساسية في غزة وشمال القطاع من بطش الاحتلال، إذ طالها دمارٌ واسع؛ فلا شبكات مياه أو صرف صحي، والطرق الرئيسية مغطاة بالركام، ما يعقّد عودة السكان الذين نزحوا سابقًا إلى وسط وجنوب القطاع هربًا من القصف العنيف. أوضاعٌ فاقمت هشاشة الواقع الصحي والبيئي، لكنها لم تمنع الناجين من الإبادة من العودة إلى أحيائهم والعيش فوق أنقاض بيوتهم، في مشهدٍ يجسّد عمق التمسّك بالأرض والانتماء إليها.
الناجي من الإبادة، ماجد أبو ريالة، عاد من مخيم النصيرات إلى حي 'الشيخ رضوان' لتفقّد منزله، لكنه تفاجأ بهول الدمار الذي أصاب الحيّ. يقول لـ 'قدس برس': 'قبل وصولي إلى منزلي في الشارع الأول بحي الشيخ رضوان، أصابتني حالة من الذهول من حجم الدمار، شعرتُ للحظةٍ أنني لا أعرف ملامح المنطقة التي عشتُ فيها عمري كلّه'.
ويضيف: 'حين وصلت إلى منزلي المكوّن من أربعة طوابق، وجدت الطابقين العلويين مدمرين تمامًا، أما البقية فأصابها خراب كبير بالكاد يمكن العيش فيه، وكأن زلزالًا ضرب الحيّ فلم يترك شبرًا إلا وطاله الدمار'.
ويتابع: 'لم يكن الدمار وحده المشكلة، فعدم وجود الماء وخدمات الصرف الصحي، وإغلاق الطرق بتراكم الركام فيها، معضلة كبيرة منعتني من اصطحاب النسوة معي في أيامي الأولى بمدينة غزة'.
ويردف بعزيمة الناجين من الإبادة: 'رغم كل هذا الخراب، لن أتخلى عن منزلي في الحيّ الذي عشت فيه سنوات طويلة.. سأعمل على إصلاح ما يمكن إصلاحه، وسأعود برفقة عائلتي من النصيرات لنكمل حياتنا هنا'.
ولا يختلف الأمر كثيرًا عند أحمد مرزوق، أحد الناجين من الإبادة، الذي عاد منذ اللحظات الأولى لانسحاب الاحتلال، ليتفاجأ بأن منزله الواقع في شارع الجلاء بمدينة غزة قد تحوّل إلى أكوامٍ من الحجارة. لكنه سرعان ما نصب خيمته على أنقاضه.
يقول لـ 'قدس برس': 'حجم الدمار في حي الشيخ رضوان وشارع الجلاء كبير جدًا، لكن هذا المكان هو الذي وُلدت فيه، ولن أتخلى عنه مهما كلّف الأمر. لذلك نصبت خيمتي وسأعيش هنا حتى يُعاد بناء المنزل'.
ويُوضح أن الاحتلال دمّر جميع مقومات الحياة في المنطقة، إذ لم تبقَ بنية تحتية، ولا مياه، ولا غذاء، مشيرًا إلى أن إصلاح ذلك قد يستغرق وقتًا طويلًا: 'نأمل أن تُعاد للحيّ أدنى مقومات الحياة في القريب العاجل حتى نستطيع البقاء هنا'.
وأشار إلى أنه يقطع مسافة طويلة في اتجاه ميناء غزة في رحلة تتخطى الثلاث ساعات، ليحصل على بعض الماء الصالح للشرب والاستخدام اليومي، عدا عن عدم وجود محلات لبيع الأكل والمعلبات سوى في مناطق تبعد كيلومترات عن مكان تواجده. ودعا الجهات الدولية، العربية والإسلامية، إلى الإسراع في دعم قطاع غزة وإطلاق عملية إعادة الإعمار بصورة عاجلة، لإنقاذ ما تبقى من حياة من 'نجوا من واحدة من أكبر عمليات الإبادة الجماعية في تاريخ البشر' على حد تعبيره.
لم تكن أكوام الركام سوى عثرة صغيرة في وجه الناجي من الإبادة، محمد فرينة، إذ تجرّع مرارة المشهد ذاته، بعدما وجد منزله قد سُوي بالأرض واختفت معالم المنطقة التي كان يعيش فيها قبل نزوحه إلى وسط القطاع.
يقول لـ 'قدس برس': 'لا أستطيع استيعاب حالة الخراب التي أصابت المكان، فالتدمير والعبث طال البنى التحتية ومصارف الصرف الصحي ومنابع المياه ومحطات التحلية، الأمر الذي جعل عودة الحياة ضربًا من المستحيل'.
ويضيف: 'بحثنا مطولًا عن مكان يتواجد به ماء، فوجدنا بئرًا سلم سهوا من هذا الجيش النازي، وباستخدام الدلاء والبراميل الصغيرة وبرافعة بدائية أخذنا ننتشل منها لنقضي أمور يومنا'.
وعن شبكات الصرف الصحي، أوضح فرينة أنه تعاون مع جيرانه في الحي وأنشأ شبكة بدائية تصب مخرجاتها في حفرة عميقة على أطراف الحي، إلى حين تمكن طواقم البلديات من إزالة ركام الشوارع وإصلاح الشبكات المدمرة.
ويُتابع: 'رغم الدمار الكبير سأبقى هنا، وسأعيش على أنقاض المنزل مع عائلتي إلى أن يُعاد بناء الحي من جديد'.
ومنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، ارتكبت قوات الاحتلال -بدعم أميركي أوروبي- إبادة جماعية في قطاع غزة، شملت القتل والتجويع والتدمير والتهجير والاعتقال، متجاهلة النداءات الدولية وأوامر محكمة العدل الدولية بوقفها.
وخلفت الإبادة أكثر من 238 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين، ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين، معظمهم أطفال، فضلًا عن دمار شامل ومحو معظم مدن ومناطق القطاع من على الخريطة. وفي قلب هذا الخراب، ينهض الناجون من الإبادة، لا ليحكوا فقط ما جرى، بل ليعيدوا بناء ما يمكن، ويثبتوا أن الحياة لا تُهزم.












































