اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٢٧ تموز ٢٠٢٥
زياد رحباني: ليك.. ليه عم تعمل هيك؟!
كمال ميرزا
في محاضراتي لطالما كنتُ أسوق 'زياد رحباني' مثالاً على الأصالة وقوّة الشخصية الحضاريّة.
زياد (شأنه شأن الرحابنة عموماً) كان منفتحاً على موسيقى الثقافات الأخرى، يتأثّر بها ويستلهم منها، وبخاصة موسيقى الـ 'جاز' التي أبدع فيها.
خصوصيّة 'زياد' أنّه لم يكن يقلّد، أو ينسج موسيقى تحاكي الآخرين أو على منوالهم.. بل كان يهضم ما لدى الآخرين من فنون وممكنات تعبيريّة ومقترحات إبداعيّة وجماليّة، وعندما يلحّن، يعيد إنتاج ما هضمه وأحسّه واكتنهه كموسيقى لبنانيّة عربيّة أصيلة مئة بالمئة!
أصالة 'زياد' لا تتوقّف عند موسيقاه، بل تتعدّاها إلى أصالة مواقفه الوطنيّة والقوميّة والأمميّة، اتفقتَ معه أو اختلفتَ، اعتنقتَ فكره وإيديولوجيتّه أم لم تعتنق.
مظهر الأصالة الثالث لدى 'زياد' هو حسّه الساخر، فزياد مثال فوق العادة للفرق الجوهريّ والكبير، ولكن الذي تفصله في نفس الوقت شعرة رفيعة.. بين السخرية والمسخرة.
'زياد رحباني' فنان أصيل على أكثر من مستوى، ولا يذمّ فناناً أصيلاً عند موته سوى شخص 'قليل أصل'!
رغم الخسارة الكبيرة، إلّا أنّ أكثر ما يعنيني ويُشعرني بالأسى في نبأ وفاة 'زياد رحباني' هو حال السيدة 'فيروز'!
أولاً: أن يدفن الأهل أبناءهم هي من أصعب التجارب في الحياة وأقساها (ويلي على أمّهات غزّة وآبائها)، فما بالنا وهذا هو 'الضنا' الثاني الذي تدفنه 'فيروز' على حياة عينها بعد ابنتها 'ليال'!
ثانيّاً: 'زياد' على شقاوته وتفّلته هو السَنَد (هكذا أتصوّر)، وهو فلذة الكبد الذي يعين أمّه ولو عاطفيّاً ومعنويّاً على القيام بالمهمة الممتدّة بطول العمر، وهي رعاية فلذة الكبد الآخر 'هلي'، وبطريقة لا أظنّ أن وجود 'ريما' وحده كافٍ لتعويضها.
ثالثاً: أنّ 'زياد' (مرّة أخرى أنا هنا أتصوّر وأتوقّع) هو الامتداد الحقيقيّ أو الأقصى لحبيب القلب 'عاصي الرحباني'!
لطالما قلتُ: ليس هناك في الشرق أيتام؛ فلكلّ مولود أُمّين، أمّه التي ولدته.. وفيروز!
وفق هذه المنطق فإنّ 'زياد رحباني' هو شقيقنا جميعاً، وكلّ بيت في الشرق قد فقد في هذا اليوم الحزين أحد أبنائه!
هناك قطعاً مَن لا يروقهم أن يكون 'زياد' شقيقهم، وأن يكونوا وإيّاه أبناء بيت واحد وأسرة واحدة.. ولا ضير، سبق وأشرنا إلى 'قليلي الأصل'، وهم كُثر، أكثر ممّا نتصوّر!
وداعاً زياد رحباني!
كثيرون لن يتوانوا عن الجزم بأنّ مصير شخص 'كافر' و'ماجن' و'موسكوفي' مثل 'زياد رحباني' هو جهنّم.
لا أعرف، ظنّي أن حسم مثل هذه المسائل متروك بشكل حصريّ لله تعالى بعد أن يموت الناس ويُفضوا إلى ما قدّموا!
بالنسبة لي، لطالما تخيّلتُ الجنّة مكاناً يمكن أن تسمع موسيقى 'ميس الريم' في خلفيّته الصوتيّة، و'الحوض' مكاناً يمكن أن تجتمع عنده مع الأهل والأصدقاء والأحبّة الذين سبقوك إلى دار الحقّ لتغنّوا معاً: 'ع هدير البوسطة'!
وحتى لو كان مصيره النار، ظنّي أن 'زياد' لن يتوقّف عن مداعبة الآخرين ومناكفتهم، كأن يلتفتَ إلى زميل في العذاب يصيح ويستغيث ليقول له: 'شو إشبو الجو'؟! أو كأن يصيح بأحد ملائكة العذاب يقف بعيداً ويقول له: 'لو بتسكّر هالشباك يا معلم'!
كما قلتُ، مصير البشر النهائيّ متروك لربّ البشر، لكن أيضاً ثقتي أنّ أكثر الناس غلوّاً يستطيعون إذا نووا أن يجدوا في فنّ 'زياد' وإرثه ولو مقطعاً واحداً على الأقل يكفي لأن يتشفّع له عند الله:
((كل المصاري إللي مضبوبة.. إللي ما بتنعد وما بتنقاس..
أصلاً من جياب الناس مسحوبة.. ولازم ترجع ع جياب الناس..
هيه دي.. هيه دي.. هيه دي هيه الأصليّة))!
المشكلة هنا على ما يبدو أنّ هؤلاء رغم إخلاص نيّة كثير منهم قد فقدوا القدرة على التمييز بين 'الله' الرحمن الرحيم الودود القدّوس جبّار القلوب والخواطر الذي يمكن أن يغفر لإنسان ما ويتجاوز عنه في لحظة هكذا 'بلا ولا شي'.. وبين 'يهوه' الإله الدمويّ العنصريّ الماديّ الشرير!
أمَا مِن أحد منّا يقف فوق جثمان 'زياد رحباني' ويقول له باسمنا جميعاً
((إحنا عم بنفكّر نبقى إحنا وإياك..
ليك.. ليه عم تعمل هيك))؟!