اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٣١ أب ٢٠٢٥
الهندسة في عصر الذكاء والعار
أ.د. عبدالله يوسف الزعبي
تعود عقارب الذاكرة إلى صفحة عتيقة من دفتر الأيام في باكورة الثمانينات وعام 1980، ذاكرة تستجلب الرقدة في جفن الغربة على أسرة البعاد، إلى بريطانيا في شتاء السخط وذروة الأفول، حين اعتلت ثاتشر قمة التاج وبشرت بفناء العظمى، وحين استدعت سفن الشر وفرق تسد، تلك التي زرعت القهر وحرثت الموت على مساحة الزوال، حين نعت الإمبراطورية وألقت بها خلف الأفق فيما وراء الشمس. يومها، كنت التحق بالدراسة في جامعة نوتنجهام؛ إذ وقف منتصباً صاحب الفضل والهيبة، البروفيسور ريموند لويس بيرل، رئيس قسم الهندسة الكهربائية والإلكترونية، مرحباً بالطلبة الجدد، بقامته الفارعة وجسمه النحيل، من خلف نصف نظارة وحاجب شبه رمادي كثيف، وبلكنة كلاسيكية تشبه شكسبير، ونبرة أرستقراطية النزعة والمزاج، خاطب وجوه تقارب الخمسين، غضة ذات ألوان وألسن مثقلة بالطموح، بعبارات لخصت بدقة فلسفة التعليم في بريطانيا ذاك الزمان، حيث صرامة علمية تمزج بين النظري والتطبيق، تضم معامل ومشروعات تصميم، وتخصص متأخر دقيق، وروابط وثيقة بالصناعة، واحتراماً للمعايير والأخلاق والمحافظة على السلامة، وتعلم قائم على المخرجات.
ما زالت تجوب الخاطر أصداء ذاك اللقاء الأول مع البروفيسور الذي يغمر اللقب ويعمر القلب ويستحق بعض سطور، وما زالت اللحظة توخز الوجدان وتستفز البال، حين كانت نوتنجهام الآفلة العريقة تزدان حيوية وتنبض بالحياة، وحين كان فوريست يعتلي للتو عرش أوروبا الكروي بزهو واقتدار، بينما كهوف الحجر الرملي أسفل قلعة نوتنجهام تزخر بوليام الفاتح وقلب الأسد وروبين هود، وأول حانة بإسم غريب يثير الدهشة، يترجم بمعنى: 'رحلة إلى القدس'. كان العالم وقتها يشكو غزوة الاستهلاك ومدرسة شيكاغو في النيوليبرالية والخصخصة وشرعنة السوق، عالم بدأ يسير في دروب الحيرة، يفقد المعنى ويبتلع النفط والدولار، يعيد شكل السياسة ويصيغ الإنسان من جديد. كان العلم يومئذ يبحث في الطاقة الشمسية والخلايا الضوئية وتلك النقلة من التناظرية إلى الرقمية في الاتصالات، والحاسوب الذي كان جنيناً في رحم الغيب، يسير بسرعة السلحفاة وقدرة تخزين واستيعاب ضئيلة بحجم ذاكرة السمكة وصنائع المعروف عند الناس. كان العلم مشغولاً آنذاك في الأقمار الصناعية ونظرية الترميز وشبكات الهاتف والبث، وكانت مجموعات البحث تعمل على ضبط الأتمتة وإتقان أنظمة الهوائيات، تبحث عن أسئلة في الكهرومغناطيسية والرادار وكيف يسبر الفوتون والليزر أعماق الألياف البصرية، وجملة قديمة من الحيرة حول الذرة والمادة، وعن كومة من المسائل والإختراعات، والسعي نحو السيطرة على الطبيعة وحيازة الكون.
اليوم، لا تزال الطاقة المتجددة تعتلي عرش بحوث الهندسة الكهربائية ومعها إنترنت الأشياء والأنظمة السيبرانية والمعمارية السحابية والشبكات الذكية والأجهزة الكمومية وتقنيات التخزين. وما زال البحث يستكشف مواد نانوية، جديدة ومتقدمة، وهياكل الرقائق ثلاثية الأبعاد والحوسبة الفائقة، بينما تنمو الاتصالات وشبكات الأجيال وأنظمة الألياف الضوئية بسعة تيرابت، وتتقاطع أنظمة التحكم مع الروبوتات والمسيرات، وذكاء يتيح المركبات ذاتية القيادة والأتمتة الشبكية. توسعت الكهرومغناطيسية والفوتونيات النانوية وأجهزة التيراهيرتز حيث دمجت البصريات والإلكترونيات بطرق تدعم أجهزة الذكاء. كما نضجت التخصصات وازدهرت، فأصبحت هندسة الحاسوب جزءً من الكهربائية، والطبية الحيوية جنيناً للإلكترونية، والطاقة عصباً للقدرة والآلة، وتوسعت الأنظمة المدمجة وأجهزة التعلم الآلي والمعالجات العصبية الشكلية. كما تطور مجال تعدد التخصصات حتى شمل الإلكترونيات القابلة للارتداء، وواجهات الدماغ والحاسوب، والأنظمة الكهروميكانيكية الحيوية، والتصوير الطبي المتقدم، وتتغلغل معالجة الإشارات في جميع المجالات من علوم البيانات والتمويل إلى علم الأعصاب والموصلات الفائقة. كما اندمجت الهندسة الكهربائية بشكل متزايد مع الفيزياء والأحياء وعلوم الحاسوب، مما أدى إلى ظهور تخصصات هجينة لم تخطر على بال أو يتصورها خيال.
لقد تغير المشهد اليوم حين احتلت مكان ناسا جوجل وإنفيديا وإنتل، وتقدمت هواوي وتسلا أجندة البحث وتوسعت القيادة إلى ما هو أبعد من الولايات المتحدة وأوروبا، إلى اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، إلى الصين والهند، وتحديات تتمثل في المناخ والطاقة والأتمتة وتقنيات الكم، وحديث الساعة وما يجعل العالم ذكياً ومستداماً، أو ربما يفقد الروح والأخلاق. أرست الهندسة الكهربائية أسس العصر الرقمي يوم ارتحلت الذاكرة إلى نوتنجهام، واليوم تبني دعائم عصر الفاقة والذكاء. اليوم، تغير الحال والزمان وأضحى العلم جنون والجامعة مرتعاً للظنون، وعالم ينتج المعرفة في بيادر الدم ويثرثر ليلاً نهاراً عن الإنسان، عن العدل والمساواة، عن الحق والسلام، بينما ضميره ضاع بالعار، ومضى في غياهب الهندسة وسراديب الكهرباء والغباء.