اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ١٤ تشرين الأول ٢٠٢٥
الديمقراطية الإسرائيلية… وجهٌ حرّ حين يُصفّق، وقناعٌ قمعي حين يتكلّم بالعربية #عاجل
كتب زياد فرحان المجالي
لم تكن قاعة الكنيست في القدس مجرّد مسرح لخطابٍ بروتوكولي يلقيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب؛ بل تحوّلت إلى مشهدٍ رمزيّ فاضحٍ يختصر طبيعة النظام الإسرائيلي كلّها. لحظة رفع النائبين أيمن عودة وعوفر كاسيف لافتتين كتب عليهما 'اعترفوا بفلسطين”، قبل أن يُخرجا بالقوة من القاعة، كانت كافية لتسقط القناع عن 'الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” كما يصفها الغرب.
كانت الوجوه في الكنيست متجهة إلى ترامب، تُصفّق وتبتسم وتُصفّر، بينما وُجهت الأيادي التي حملت اللافتة إلى الخارج، إلى الظلّ. مشهدٌ لا يحتاج إلى تحليل فلسفي عميق ليقول إنّ الحرية في إسرائيل مشروطة بأن تكون جزءًا من الجوقة، لا من السؤال.
من اللافتة إلى الفضيحة
الصحافة العبرية تعاملت مع الموقف بارتباكٍ واضح. بعض الصحف مثل يديعوت أحرونوت ويسرائيل هيوم اكتفت بتصوير الحدث كـ'فوضى مؤسفة' في جلسة رسمية، بينما رأت هآرتس أنّ طرد النائبين العرب يكشف ما هو أعمق من مجرد خللٍ بروتوكولي. فحين يتحدث ترامب عن 'العصر الذهبي لإسرائيل”، كان البرلمان يطرد صوتين يطالبان باعترافٍ بسيط بوجود شعبٍ آخر على هذه الأرض.
إنها المفارقة التي تلخّص عقل الدولة: تريد أن تكون ديمقراطية لليهود فقط، وتمنح العرب حقّ الكلام بشرط أن يكون عن الطقس أو الرياضة لا عن الاحتلال والحقوق.
الصحف نفسها التي روّجت لزيارة ترامب كـ'لحظة تاريخية” كانت هي ذاتها التي برّرت طرد ممثلي المواطنين العرب. أحد الكتّاب في ماكور ريشون كتب: 'ما فعله عودة وكاسيف خيانة لروح الكنيست”، وكأنّ روح البرلمان الإسرائيلي هي الإذعان لا النقاش.
برلمان بلا هواء
الكنيست الذي يحتفل بنفسه كرمزٍ للحرية، يغلق نوافذه حين يدخل منها هواءٌ عربي. منذ قيام الدولة، وحتّى اليوم، كان حضور العرب في الكنيست حضورًا مراقَبًا: يُسمَح لهم بالجلوس في القاعة لا ليتحدثوا باسم شعبهم، بل ليُقال للعالم إنّ إسرائيل 'تستوعب الجميع'.
لكنّ هذه اللحظة مع ترامب حطّمت المشهد المسرحي. فالصورة التي أرادتها تل أبيب أن تكون لوحة استعراض أمام الكاميرات، تحوّلت إلى فضيحة مصوّرة: رئيس أميركي يتحدّث عن 'الحرية”، وحرس الكنيست يسحب نائبين لأنّهما طالبا باعترافٍ بفلسطين.
لم تكن الواقعة حادثًا عابرًا، بل مرآةً لسياسةٍ ممتدة. منذ قانون 'القومية” عام 2018 الذي نصّ على أنّ 'حقّ تقرير المصير في دولة إسرائيل خاصّ بالشعب اليهودي فقط”، تحوّلت 'المواطنة” إلى رتبةٍ ثانوية، و'المشاركة” إلى ديكورٍ مؤقت يُزال عند أول خلافٍ مع الرواية الرسمية.
من بغداد إلى القدس: رمزية الرفض
لم يكن رفع اللافتة في وجه ترامب حدثًا معزولًا؛ فالتاريخ العربي الحديث عرف مشاهد مشابهة في لحظات الرفض.
كما فعل الصحفي العراقي منتظر الزيدي حين ألقى بحذائه في وجه جورج بوش الابن في بغداد عام 2008، لا كفعلٍ شخصيّ، بل كصرخة أمةٍ شعرت بالإهانة من الغزو والهيمنة.
كلا المشهدين — الحذاء في بغداد واللافتة في القدس — ينتميان إلى الجوهر ذاته: رفض الخضوع وفضح النفاق الأخلاقي الذي يلبسه الغرب باسم 'الديمقراطية” حين تكون إسرائيل طرفًا في المعادلة.
في بغداد، كان الحذاء أبلغ من الكلمات؛ وفي القدس، كانت اللافتة أكثر صدقًا من التصفيق. كلاهما أزعج القوة لأنها لم تكن معتادة أن تُرى من زاوية المقهورين.
الوجه الآخر للديمقراطية الإسرائيلية
إسرائيل التي تقدّم نفسها كـ'نموذجٍ ديمقراطي” في بحرٍ من 'الاستبداد العربي”، تعرف تمامًا أن ديمقراطيتها تتوقّف عند حدود العرق والدين.
فهي ديمقراطية لمن وُلد يهوديًا، وليبرالية حين يكون الحديث عن معارضٍ يهودي داخل المنظومة، لكنها تتحوّل إلى جهاز أمني حين يكون الصوت بالعربية أو باللهجة الفلسطينية.
في كلّ مرة يتجرأ نائبٌ عربيّ على كسر الإجماع، تبدأ الجوقة بالحديث عن 'تهديد الأمن”، 'التحريض”، 'التنسيق مع الأعداء”، حتى لو كان الموقف مجرد كلمة أو لافتة.
المشكلة ليست في ما قاله أيمن عودة أو كاسيف، بل في أن النظام برمّته غير قادر على احتمال فكرة أن يُقال في قلب القدس إنّ هناك فلسطين.
هذا هو جوهر 'الديمقراطية الانتقائية”: أن تمنح الآخرين حقّ الوجود فقط إن قبلوا أن يكونوا صامتين.
ترامب والمرآة الإسرائيلية
ترامب، بخطابه الذي مزج بين الاستعراض والسياسة، بدا كمن يضع مرآة أمام إسرائيل دون أن يدري. حين قال من على منصة الكنيست إنّ 'إسرائيل ستقود الشرق الأوسط إلى عصرٍ جديد”، كان يكرّر خطابًا استعماريا مغلفًا بعبارات الحرية.
لكن المشهد الذي دار خلفه — طرد نائبين عرب — كشف أن هذا 'العصر الجديد” ما زال يُدار بالعقل القديم: عقل الاحتلال والتمييز والسيطرة.
الصحافة الإسرائيلية حاولت التخفيف من وقع الحادثة بتوصيفها 'حدثًا عرضيًا”، إلا أن صور طرد النواب انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي وأصبحت عنوانًا معاكسًا لخطاب ترامب: الحرية التي تُصفّق بالعبرية وتُمنع بالعربية.
القناع يسقط أمام الكاميرا
في المبدأ، الديمقراطية لا تُختبر حين تسود الأغلبية، بل حين تتكلم الأقلية.
وفي إسرائيل، كلّما تكلّمت الأقلية، انكشف النظام أكثر.
من قانون القومية إلى منع النواب العرب من السفر باسم لجان الكنيست، إلى محاولات تجريم رفع العلم الفلسطيني، إلى طردهم من الجلسة حين يتحدثون عن الحقّ لا عن الماء والكهرباء.
هذه ليست دولة ديمقراطية بل منظومة إدارة أمنية تستخدم لغة الديمقراطية لتجميل وجهها أمام الغرب.
فحين يقول نتنياهو 'العرب في الكنيست دليل على التعددية”، فهو لا يقصد التعددية بالمعنى الحقيقي، بل 'الديكور” الذي يثبت أمام الكاميرا أن العرب 'موجودون”، فقط ليُسحبوا حين ينطقون بكلمة 'فلسطين”.
خلاصة الوعي
ما جرى في الكنيست ليس حادثة بروتوكولية بل اعتراف غير مباشر بأن إسرائيل تخاف من الكلمة أكثر من الرصاصة.
تخاف من اللافتة لأنها تفكك الأسطورة التي قامت عليها الدولة: أن الأرض بلا شعب، وأن الشعب بلا صوت.
لكنّ النواب العرب، برفعهم لافتة صغيرة في وجه رئيسٍ أميركي يصفّق له الجميع، أعادوا تعريف المعنى الحقيقي للتمثيل — ليس تمثيل الحضور في القاعة، بل تمثيل الصراع في الوعي.
في الختام
إسرائيل اليوم لا تواجه أزمة دبلوماسية بقدر ما تواجه أزمة هوية.
هي لا تعرف إن كانت دولة لكلّ مواطنيها أم دولة قومية مغلقة، ولا تريد أن تعترف بأن العرب الذين تحاول إسكاتهم هم مرآتها الأكثر صدقًا.
الديمقراطية لا تُقاس بعدد المقاعد في البرلمان، بل بمدى سماح النظام لصوتٍ مخالف بالبقاء في القاعة.
وفي الكنيست، كما في التاريخ، لا يزال الصوت العربي هو الضمير الذي تحاول إسرائيل طرده من الوعي.