اخبار الاردن
موقع كل يوم -صحيفة السوسنة الأردنية
نشر بتاريخ: ١٧ حزيران ٢٠٢٥
مع تصاعد التوتر العسكري في الإقليم واتساع رقعة المواجهة بين إسرائيل وإيران، شكل القرار الإسرائيلي بإغلاق حقل 'ليفياثان' البحري، أحد أكبر منشآت الغاز الطبيعي في شرق المتوسط، نقطة تحول حاسمة في ملف الطاقة الإقليمي. هذا القرار كشف بشكل صريح هشاشة الاعتماد الطاقي للأردن، الذي يستورد أكثر من 50% من الغاز الطبيعي المستخدم في توليد الكهرباء من إسرائيل عبر اتفاقيات طويلة الأمد. تعليق ضخ الغاز، حتى ولو مؤقتًا، يفضح هشاشة منظومة لا تحتمل رجّات الجغرافيا أو مفاجآت السياسة.
ويظهر تأثير هذا التوقف في أكثر من بعد. على الصعيد التشغيلي، تعتمد محطات توليد رئيسية مثل AES في شرق عمّان، ومحطة قطرانة للطاقة، والعقبة للطاقة، وشركة التوليد المركزية CEGCO على الغاز الإسرائيلي لتشغيل وحداتها، إذ تستهلك هذه المحطات مجتمعة نحو 340 مليون قدم مكعبة يوميًا. أي خلل في الإمداد يترجم مباشرة إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج أو انقطاعات تهدد استقرار الشبكة الكهربائية الوطنية. إضافة إلى ذلك، فإن الصناعات الثقيلة المعتمدة على الغاز قد تواجه تعطلًا جزئيًا أو كليًا، مما يؤثر سلبًا على فرص العمل والنمو الاقتصادي الوطني. ويتعقد المشهد أكثر بتوقف الإنتاج من حقل 'كاريش' الذي تديره شركة 'إنرجيان'، ما يعكس هشاشة الاعتماد المفرط على نقطة إمداد واحدة في منطقة نزاع مفتوح.
لكن على الرغم من هذه التحديات، لا يبدأ الأردن من نقطة الصفر. فهو يمتلك مصادر طاقة محلية ومتنوعة بدأت ترسم طريقًا نحو استقلال طاقي تدريجي. حقل غاز الريشة شرق المملكة ينتج اليوم نحو 25 مليون قدم مكعبة يوميًا، وهو ما يعادل أقل من 5% من إجمالي الاستهلاك، ويشكل حجر أساس هام لتطوير الاستقلال الطاقي على المدى المتوسط. إلى جانب ذلك، تمكن الأردن من رفع مساهمة الطاقة المتجددة إلى حوالي 30% من إجمالي إنتاج الكهرباء في 2025، من خلال مشاريع رائدة مثل 'بينونة' و'الطفيلة للرياح' و'شمس معان'. وتوجد خطط طموحة لرفع هذه النسبة إلى 50% بحلول عام 2030، شرط توافر الإرادة التنظيمية والبيئة الاستثمارية المحفزة.
إضافة إلى مصادر الغاز والطاقة المتجددة، يملك الأردن ثالث أكبر احتياطي عالمي من الصخر الزيتي، يقدر بـ70 مليار طن. وقد بدأت محطة 'العطارات' في إنتاج نحو 470 ميغاواط من الكهرباء، ما يمثل حوالي 15% من القدرة التوليدية الفعلية للمملكة، مما يثبت جدوى الاستثمار المحلي في مصادر الطاقة غير التقليدية. كما يُعد الربط الكهربائي مع مصر صمام أمان استراتيجيًا مهمًا؛ إذ يزود الأردن بنحو 80 ميغاواط في أوقات الذروة، ما يشكل نسبة تتراوح بين 2% إلى 3% من الأحمال الكهربائية الوطنية. وعلى الرغم من أن هذا الربط لا يمثل مصدر تزويد دائم، إلا أن أهميته تتجلى في دعم استقرار الشبكة الكهربائية في حالات الطوارئ، ويمكن تطويره مستقبلاً ليصبح أداة توازن أكثر فعالية.
في ضوء هذه المعطيات، ينبغي على الأردن أن يسير على مسارات متوازية تضمن تأمين الطاقة بشكل مستدام. يتمثل ذلك في تشغيل وحدات الوقود البديل فورًا عند تعطل الغاز، وزيادة الاعتماد المؤقت على الغاز المسال المستورد عبر ميناء العقبة. كما يجب تسريع عمليات التنقيب عن الغاز محليًا، خاصة في مناطق الريشة والسرحان، للاستفادة القصوى من الموارد المحلية المتاحة. أما على المدى البعيد، فمشاريع الهيدروجين الأخضر التي يجري التعاون بشأنها مع شركاء من أوروبا والخليج تفتح آفاقًا جديدة نحو نقلة نوعية في بنية الطاقة الوطنية، وتمنح الأردن موقعًا رياديًا في سوق الطاقة النظيفة الإقليمية.
تُذكّرنا أزمة الغاز الأخيرة أن موضوع الطاقة لا يقتصر على كونه بندًا تقنيًا في ميزانيات الدولة، بل هو قضية سيادة وطنية واستقلال استراتيجي. فالدول التي تبني منظومتها على الاستيراد والارتباط بالأسواق الخارجية تبقى عرضة لتقلباتها، أما الدول التي تستثمر في مواردها وتبني على ذاتها، فتمتلك زمام القرار وتشكل مسارها الخاص. والأردن، بتاريخ إرادته، وموقعه الفريد، وموارده المتاحة، أمام فرصة حقيقية للتحول من مستوردٍ مضطر إلى منتجٍ مبادر، يعتمد على عقل الدولة لا ردود الأفعال، ويبني أمنه الطاقي بأدواته الخاصة، لا بما يُمنح له.