اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ١٠ تشرين الأول ٢٠٢٥
حين يكتب المهزوم بيد المنتصر: قراءة نفسية في مقال صحفي إسرائيلي بعد إعلان 'انتهاء الحرب' #عاجل
كتب زياد فرحان المجالي
لم يكن ما كُتب في الصحف الإسرائيلية مساء التاسع من تشرين الأول/أكتوبر 2025 مجرّد خبرٍ عن 'انتهاء الحرب' كما عنونه الكاتب الإسرائيلي ليران أهاروني، بل كان وثيقة اعترافٍ غير معلن بأن الجيش الذي 'لا يُقهر' قد انهزم في معركة الوعي قبل أن يُهزم في الميدان.
فالخبر الذي حمل توقيعه بدا في ظاهره تقريرًا مهنيًا متوازنًا، لكنه في باطنه صرخةُ ارتباكٍ من مراسلٍ يعرف أن بلده فقد بوصلته بين ميدانٍ يرفض الانصياع وقيادةٍ تغرق في التبريرات.
وجع الصحفي حين يتحوّل الخبر إلى مرثية
أهاروني كتب ببرودٍ لغويّ عن 'خليل الحية يعلن انتهاء الحرب'، لكنه ترك في السطور صدىً لا يُخطئه القارئ الخبير: نبرة من يرى في كلمات العدو نعيًا لأسطورته القديمة.
لم يصرّح بشيء، لكنه كتب كل شيء.
اختار أن يذكر 'الضمانات الأميركية' وكأنه يستجدي فيها شيئًا من كرامةٍ سياسيةٍ ضاعت، وأن يورد أسماء قادة المقاومة — هنية، العاروري، السنوار، الضيف — في جملة واحدة دون أن يُدرك أنه يُقيم لهم تمثالاً في ذاكرة الحرب.
إنه يكتب عنهم كمن يكتب عن أعدائه، لكنه لا يستطيع إنكار أنهم صمدوا حيث انهار جنوده.
حين ينهزم الجيش، يتكلم الصحفي بلسانٍ مُرتعش
الكاتب الإسرائيلي، وهو يروي تفاصيل الاتفاق، بدا كمن يختبئ وراء مفرداتٍ رسمية: 'المفاوضات'، 'الوسطاء'، 'ضمانات الولايات المتحدة'، 'قوائم الأسرى'...
لكنه في الحقيقة كان يتهجّى نهاية الوهم الذي تربّت عليه إسرائيل طيلة عقود.
هو لا يكتب من داخل غرفة الأخبار، بل من داخل جرحٍ مفتوح في الوعي الجماعي الإسرائيلي الذي كان يردّد طوال عامين شعار 'الردع'.
وحين يكتب الآن 'الانسحاب'، و'الهدنة الدائمة'، و'فتح معبر رفح'، فإنه يكتب وصيّة الإمبراطورية العسكرية التي فقدت هيبتها أمام أحياء غزة المنكوبة.
التحليل النفسي للنص: لغة الخوف المقنّع
النص العبري الذي نُشر في الصحيفة يحمل علامات القلق أكثر مما يحمل نبرة نصر.
هناك مفردات تكرّرت بعناية دفاعية: 'المسؤولية'، 'الضمانات'، 'الوساطة'، 'التفاهمات' — وهي كلمات تُستخدم في علم النفس السياسي عندما يريد الكاتب أن يُقنع نفسه بأن الهزيمة ليست نهائية.
الكاتب استخدم صيغة الماضي المستمر، وكأنه يقول: 'لقد حاولنا، تفاوضنا، استمرّينا…” ليبقي شعور الفشل مؤجلاً.
لكن القارئ الإسرائيلي يدرك أن هذه اللغة ليست إلا تدرّبًا على الاعتراف.
بين السطر والسطر: هزيمةٌ تُكتب بأصابعٍ مرتجفة
حين يصف الصحفي 'مقاتلي حماس الذين قاتلوا وجهاً لوجه أمام الدبابات'، فإنه يكشف، دون قصد، لحظة الانكسار الذهني في الرواية الإسرائيلية.
ففي الثقافة العسكرية الصهيونية، لا يُذكر العدو بصفته بطلاً إلا بعد فوات الأوان.
لقد حاول أن يُغطي إعجابه الخفيّ بكلمة 'أبطال المقاومة'، لكنّها خرجت من لاوعيه الصحفي مثل زفرةٍ من تحت الرماد.
وهذا هو بالضبط ما يميّز كتابة المهزوم حين يواجه ذاته: أن يمتدح من كرهه، لأن الكره وحده لم يعد كافيًا لتفسير الخوف.
من ميدان غزة إلى غرفة التحرير
كل كلمة في المقال الإسرائيلي تشي بأن كاتبها لم يعد يرى في الجيش الإسرائيلي ذلك الكائن الخارق الذي كانت تغذّيه الدعاية.
لقد انهزم أمام الحقيقة: أن غزة — المدينة الصغيرة المحاصرة — صمدت لعامين وكسرت المعادلة النفسية التي قامت عليها إسرائيل منذ 1948.
الصحفي الإسرائيلي هنا لا يدافع عن سياسة، بل يحاول إنقاذ ذاكرته من الانهيار الكامل.
ولذلك كتب تقريره ببرودٍ متعمد، كمن يضع قناع المهنة على وجهٍ شاحب.
منطق المنتصر
في المقابل، حين يقرأ الصحفي العربي — أو الفلسطيني تحديدًا — هذا النص، يدرك أنه ليس بحاجةٍ إلى إعلان النصر الرسمي.
فالنصر الحقيقي أن يكتب خصمك بيديه وثيقة نهاية الحرب، ويذكر أسماء شهدائك في سطورٍ يقرؤها شعبه كأبطالٍ، لا كأعداء.
أن يتحدّث عن انسحابٍ بعد عامين من القتل، وعن 'ضمانات أميركية' لإنهاء حربٍ كان يُفترض أن تُحسم في أيام، فذلك اعتراف ضمني بأن الغلبة للمحاصرين لا للمهاجمين.
خاتمة المنتصر
في نهاية المطاف، لا يمكن لصحفيٍ إسرائيليٍّ أن يُخفي ارتجاف قلمه وهو يكتب عن حربٍ دامت عامين ولم تُعدّ له ما وعده بها الجنرالات.
وإن بدا الخبر بسيطًا في صيغته — 'الحرب انتهت' — إلا أن ما وراءه أبعد من الكلمات: إنه اعترافٌ صامت بأن الهزيمة قد وقعت، وأن من كانوا يسمّونهم 'إرهابيين' أصبحوا الرقم الأصعب في معادلة القوة.
فالصحفي الذي كتب النص لم يكن شاهدًا على اتفاق سلام، بل كاتبَ مرثيةٍ لجيشٍ فقد هيبته، ولعقيدةٍ كانت تعيش على وهم الردع.
كتبها كما يكتب المقاتل في لحظة الأسر: بلا كرامةٍ ولا إنكار، بل بحبرٍ يقطر خيبةً واعترافًا متأخرًا بأن المنتصر الحقيقي… هو من بقي واقفًا في غزة.