اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ١٣ أب ٢٠٢٥
د. بني هاني يكتب عن اقتصاديات الفساد: نظرية خيالية حول خلية أبياريا المُذهّبة #عاجل
كتب عبدالرزاق بني هاني - مدينتي التي زرتها بعد أيثليبيرغ (Aethelburg) كان اسمها أبياريا (Apiaria)، وتعني باللغة اللاتينية خلية النحل. وهي مدينة تنهض من سهول النهر كسرابٍ من زجاج وذهب. اسمها ذاته، وأكرره هنا بأنه يعني موطن النحل أو الخلية، هو أولى النكات وأشدها قسوة على سكانها. للعالم الخارجي، تبدو كنموذج للإنتاجية وحاضرة عصرية صاخبة تخترق أبراجها السحاب، عاكسةً شمساً تبدو وكأنها تشرق هنا ببريق أشد من أي مكان آخر. يتحدث السياح والقادمون الجدد عن حدائقها الغنّاء، ومشهدها الفني النابض بالحياة، وعن إيقاع الطموح الملموس الذي يُفعِم شوارعها بالطاقة. إنهم يرون مدينة الفرص اللامحدودة، خلية مثالية. إنهم يرون قرص العسل اللامع، لكنهم لا يبصرون الدبابير.
تعمل أبياريا وفق مبدأ بسيط ووحشي، ينبئ به اسمها بشكل مأساوي. الغالبية العظمى من مواطنيها هم النحل. إنهم العُمالُ والمبدعون والمبتكرون. من عامل البناء الذي يُرسّخ أساس بناية إسكانٍ جديدة، إلى الطبيب الذي يواصل الليل بالنهار، ومن المعلم الذي يرعى الجيل القادم إلى الفنان الذي يرسم جدارية تلهب الروح. إنهم ينتجون عسل المدينة. هذا العسل ليس مجرد ثروة؛ بل هو خلاصة قيمة المدينة بأكملها: بنيتها التحتية، ثقافتها، ملكيتها الفكرية، وشريان حياتها ذاته. يعمل النحل بلا كلل، مدفوعاً بإيمانه بالصالح العام وبوعدٍ أنه في مدينة سُميت على اسمهم، سيجلب لهم كدهم مكافأة حلوة. ومنهم ساذجون مثلي تبرع لمؤسسة فيها، كي يسرق المتنفذ قيمة التبرع الذي قدمته.
لكن عسل أبياريا لا يغذي الخلية. إنه يُستنزف بشكل منهجي من قبل طبقة مفترسة من الدبابير. هذه الدبابير، على عكس النحل، لا تنتج شيئاً. إنهم سادة الابتزاز والتلاعب والقوة. لقد بنوا نظاماً ليس للإنتاج، بل للاستخلاص. نسجوا أنفسهم في نسيج المدينة ذاته، وأعشاشهم مُخبأة في أعلى مراتب مجالس إدارة الشركات، ومكاتب المدينة، والنوادي الاجتماعية الحصرية. وبصفتي مطلع في علم البيئة، بعمقٍ إلى حد غير قليل، خطر ببالي مًصطلح رأيته مناسباً لمدينة أبياريا، وقد أسميت المُصطلح مبدأ الاستجابة المتضافرة. ومبدأ الاستجابة المتضافرة هذا، عند تطبيقه على فساد أبياريا، سنجد لها مكاناً راسخاً في ثقافة أهل المدينة من الطبقة العليا، ومن الدبابير التي تُساعدهم على النهب. فهو لا يعني فوضى عارمة، بل هو هجوم مُنسق مُتعدد الطبقات على الخلية، يضمن تدفق العسل بشكل دائم إلى الأعلى نحو أفواه الأقوياء المتربصة. فتعمل الدبابير في انسجام، حيث يلعب كل مستوى دوراً محدداً في عملية السرقة الكبرى، مما يخلق سيمفونية من الاستغلال تتسم بالكفاءة بقدر ما هي مدمرة.
الفاسدون الأساسيون - الطبقة العُليا للدبابير:
على قمة النظام البيئي الافتراسي في أبياريا، يتربع الفاسدون الأساسيون. هؤلاء ليسوا مجرد مجرمين؛ إنهم مهندسو نظام المدينة أنفسهم، الطبقة العليا للدبابير التي تحكم من معاقل السلطة المعزولة. إنهم عصبة صغيرة شبه خفية من الأفراد — سلالات المال القديم، ومؤسسو الشركات الاحتكارية، وأعلى المسؤولين في المدينة الذين استولت عليهم المصالح الخاصة منذ زمن بعيد. إنهم من يكتبون قواعد اللعبة، ويضمنون أنها دائماً مزورة لصالحهم.
الفاسدون الأساسيون لا يسرقون العسل بأنفسهم أبداً؛ فأيديهم نظيفة بشكل لا تشوبه شائبة. إنهم يعملون من خلال أدوات سلطة تبدو مشروعة. هم المسؤولون التنفيذيون في شركات أبياريا الذين يصممون أدوات احتيال وسرقة افتراسية تجرّد المساكين من كل ما قد يدخروه. وهم المشرّعون الذين يصوغون قوانين ضريبية معقدة كالمتاهة، مليئة بالثغرات التي لا يستطيع التنقل فيها سوى محاسبيهم. وهم المطورون العقاريون الذين يستخدمون حق المدينة في نزع الملكية للمنفعة العامة، والذي يمارسه حلفاؤهم في البلدية، للاستيلاء على أحياء الطبقة العاملة من أجل مشاريعهم الفاخرة. فسادهم هو فساد السياسات والتشريعات والاستراتيجيات الكبرى.
تكمن عبقريتهم في قدرتهم على تأطير هذا الاستغلال بوصفه وظيفة طبيعية وضرورية للمجتمع. يتحدثون عن قوى السوق، ورفع القيود التنظيمية، والكفاءة الاقتصادية، بينما يدبرون الظروف ذاتها التي تسحق المنافسة وتركّز الثروة. يمولون الجامعات، ويرعون المعارض الفنية، وينخرطون في أعمال خيرية رفيعة المستوى، خالقين صورة عامة عن قيادتهم الخيّرة لخلية أبياريا العظيمة. إنهم ملكات الدبابير، يضعن بيض السياسات الفاسدة وينجبن أجيالاً جديدة من المستغلين، كل ذلك وهنّ محميات في عمق العش، بعيداً عن عواقب أفعالهن. لسن بحاجة لاستخدام القوة؛ فقد جعلن من القانون سلاحهن.
الفاسدون الثانويون والثلثيون - الجنود والزنابير:
تُنفذ إرادة الفاسدين الأساسيين من قبل الفاسدين الثانويين، وهم جنود الدبابير. هؤلاء هم المنفذون الطموحون والقساة والبارزون لنظام المدينة. إنهم المحامون في الشركات الكبرى الذين يجدون المبررات القانونية للأفعال غير الأخلاقية، وقادة شرطة المدينة الذين ينشرون القوات لحماية أصول الشركات بدلاً من الصالح العام، ومسؤولو لجان التخطيط العمراني الذين يوافقون على التصاريح مقابل رسوم استشارية، والمديرون من المستوى المتوسط الذين يفرضون حصصاً مستحيلة على النحل العامل.
الفاسدون الثانويون مدفوعون بنهمٍ شرس للحصول على حصة أكبر من العسل المسروق. إنهم يفهمون نظام المدينة ويطمحون إلى الانضمام يوماً ما إلى صفوف الفاسدين الأساسيين. إنهم نقطة الاتصال المباشرة لعملية الاستخلاص. فالفاسد الثانوي هو من يصادر المنزل، ويرفض مطالبة التأمين، ويكسر إضراب النقابة. إنهم يمتصون غضب الجمهور وسخطه، ويعملون كحاجز صد ملائم للطبقة العليا المحمية فوقهم. يُكافأون بسخاء على هذا الدور، ويتمتعون بأسلوب حياة من الامتيازات الهائلة، لكن يمكن الاستغناء عنهم في نهاية المطاف. فيمكن للتضحية بفاسد ثانوي أن تصبح علنية جداً، أو أن يٌحملَ الفاسد نفسه بسهولة في سبيل خلق وهم المساءلة، دون تهديد الهيكل الأساسي أبداً.
تحتهم، تزحف طبقة الفاسدين من الدرجة الثالثة، وهي فئة متنوعة ويائسة يمكن أن نطلق عليها اسم الزنابير. إنهم ليسوا دبابير، لكنهم يقلدون سلوكها المفترس على نطاق أصغر. هؤلاء هم البيروقراطيون الصغار الذين يطلبون رشوة صغيرة لتسريع تصريح ضروري، وصاحب العقار في حي فقير الذي يغش في معايير السلامة ليعتصر المزيد من الأرباح من مستأجريه، والمخبر الذي يخون مجتمعه مقابل مكافأة زهيدة. العديد من الفاسدين من الدرجة الثالثة هم في الأصل نحلٌ عصره نظام المدينة بشدة لدرجة أنهم يرون المشاركة فيه كطريقهم الوحيد للبقاء. إنهم يفترسون أقرانهم من النحل، ويفرضون بؤس الخلية على مستوى الشارع. فسادهم ليس استراتيجياً بل تكتيكي، مولود من رحم اليأس والقرب من سلطة المدينة. إنهم الطبقة الأخيرة والمريرة من الاستغلال، التي تضمن شفط حتى أصغر قطرات العسل بعيداً عن العمال الذين صنعوها.
الاستجابة المتضافرة والخلية الصامتة:
دعوني أعود إلى مبدأ الاستجابة المتضافرة، الذي تعاملتُ معه بروية. هذا المُصطلح الذي أعجبني جداً: مبدأ الاستجابة المتضافرة (Principe of Combined Response)، الذي لا يخيب تطبيقه. وفي أبياريا يُعتبر مبدأ الاستجابة المتضافرة التكامل السلس للمستويات الثلاثة من الفساد في آلةٍ واحدة متماسكة. يضع الفاسدون الأساسيون الأجندة من خلال المناورات القانونية والمالية. وينفذ الفاسدون الثانويون تلك الأجندة بكفاءة لا ترحم. ويتعامل الفاسدون من الدرجة الثالثة مع الإنفاذ على المستوى الأدنى، مما يخلق بيئة من السخرية وانعدام الثقة التي تمنع النحل من التنظيم.
النتيجة هي مدينة تعمل باستقرار مرعب. يعمل النحل بجد أكبر وأكبر، ومع ذلك تتضاءل حصته من العسل. يرون أنماط الحياة الباذخة للدبابير ويُقال لهم إنها المكافأة المستحقة للمخاطرة والابتكار. وعندما تفقد عائلة من النحل منزلها، فإنها تلوم موظف البنك (الثانوي) أو كاتب المحكمة الذي رتب الأوراق (الفاسد من الدرجة الثالثة)، دون أن تدرك أبداً دور المشرّع (الأساسي) الذي جعل كل ذلك ممكناً. لقد نجحت الدبابير في تفتيت معارضتها، وتوجيه غضب النحل إلى الداخل أو ضد بعضهم البعض.
مصير أبياريا هو اضمحلال بطيء وزاحف تخفيه قشرة براقة. يتم استخلاص العسل بوتيرة أسرع من إمكانية تجديده. يفقد النحل، المنهك والمحبط، إرادته في الابتكار والإبداع. والخلية، التي كانت تعج ذات يوم بالطاقة الإنتاجية، يخيّم عليها الصمت. تنهار البنية التحتية من الإهمال (إلا في جيوب الدبابير)، ويتوقف الحراك الاجتماعي، وتُستبدل الثقافة النابضة بالحياة بثقافة استهلاكية أحادية. مدينة أبياريا، التي يعد اسمها بموطن مزدهر للعامل، قد تحولت بدلاً من ذلك إلى صرحٍ متحجرٍ لعبوديتهم. والمأساة الكبرى هي أن النحل، المحاط بالثروة الهائلة التي صنعها، قد تم ترويضه ليؤمن بأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يكون عليها العالم.