اخبار الاردن
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٧ تشرين الأول ٢٠٢٥
وطأة اقتصادية وتراجع في السوق وتقصير في المنافسة الفنية وهجرة عربية
الشكاوى من وصول بعض الفنانين إلى مرحلة العوز، ليس مبالغاً فيها، فثمة ممثلون ومخرجون وفنيون محترفون وذوو وزن إبداعي عاطلون من العمل، أو يعملون في مهن فرعية، أو يؤدون أدواراً هامشية في أعمال لجهة 'التنفيع' والمجاملة من قبل أصدقاء مخرجين ومنتجين.
غالبية هؤلاء الفنانين يتحسرون على 'الزمن الجميل' للدراما الأردنية، الذي أخذ في التراجع الشديد، بعد حرب الخليج، وغزو الكويت، وزيادة الوطأة الاقتصادية على الأردن الذي كان أقصى همه تأمين الاحتياجات الأساسية للدولة والمجتمع، ولم تكن الفنون واحدة منها.
السوق تغيرت
أضف إلى ذلك أنّ السوق التي كانت تستهلك الدراما الأردنية، وبخاصة المسلسلات البدوية، صارت تنتج أعمالها الخاصة التي تعدت المسلسلات البدوية إلى المسلسلات الاجتماعية والعاطفية والتاريخية. في ضوء ذلك تصدعت المنافسة، من دون أن نغفل سبباً جوهرياً يتمثل في عدم المجاراة الخلاقة للدراما الأردنية لمثيلاتها العربية (تحديداً مصر والخليج وسوريا ولبنان).
بعض الممثلين والمخرجين وكتاب السيناريو الأردنيين هجروا الدراما المحلية، وقفزوا من 'المَركب السكران' بتعبير رامبو، ويمموا شطر القاهرة ممثلين، أو تعاقدوا مع شركات تنتج أعمالاً سورية، أو ممولة خليجياً، وظل في الأردن مَن ليس له حظ، أو مَن لم يكوّن علاقات شخصية تسوّقه خارجياً. والقسم الثالث بقي في الأردن مدفوعاً ربما بـ'النوستالجيا الوطنية' التي لم تطعمه خبزاً!
صرخة عالية
وقبل أن يغرق المركب المترنّح، أطلق مجموعة من الفنانين بياناً 'استغاثياً' بعدما ذيلوه بتوقيع 'مجموعة الصرخة'، خاطبوا فيه مجلس النواب من أجل تبني مطالبهم وإنصافهم، باعتبار المجلس هو 'الحاضنة التشريعية والرقابية الأولى لقضايا الوطن، ومنها قضية الفن الأردني الذي يُعاني من التهميش، ويواجه خطر الانحدار، رغم ما يملكه من طاقات بشرية وإبداعية قادرة على النهوض بالهوية الثقافية الأردنية محلياً وعربياً'.
بيان 'مجموعة الصرخة' الذي صدر قبل أيام، جاء بعد سلسلة من اللقاءات مع شخصيات وجهات مؤثرة، وبعد حراك أولي يعتقد (بل يجب) أن يمضي إلى تسوية معقولة وكريمة تضع مسار الدراما على سكة جديدة، وتمكينه، وتوفير الدعم الرسمي والأهلي من أجل الاستثمار بهذا الفن ليكون أحد تجليات القوة الناعمة للدولة.
ولا تخرج مطالب 'الصارخين' عن حدود الممكن، بل هي أدنى ما يحلم به الفنان أو الإنسان من حقوق تتمثل في 'رفع الأجور بما يتناسب مع الخبرة وتكاليف الحياة' و'إنهاء حالة التهميش الاقتصادي وضمان الاستمرارية المهنية'، فضلاً عن 'رفع سعر شراء الأعمال الدرامية المحلية من قبل مؤسسة التلفزيون الأردني'.
نعش الفن الأردني
هذه الصرخات ليست جديدة، ومع ذلك فإنها لا تجد آذاناً مصغية، فقد سبق أن نظم فنانون أردنيون تظاهرة عام 2011 حملوا خلالها نعشاً رمزياً سمّوه 'الفن الأردني' وطافوا به الشوارع، وصولاً إلى مقر مبنى نقابة الفنانين. ثم أعقب ذلك اعتصام مفتوح استمر أياماً طويلة. بيْد أنّ شيئاً لم يتغير رغم أنّ أكثر من ثماني حكومات تشكلت منذ ذلك الحين إلى الآن، وكأنّ المطلوب أن يكون التابوت ممتلئاً بالأجساد، لا بالصرخات وحسب.
ملف الدراما الأردنية وإعادة إحيائها ملف حكومي بامتياز، فهو في حال صدق النوايا يمكن أن يكون في عهدة وزارتيْ الثقافة، والسياحة، وربما تضاف إليهما وزارة الإعلام المعنية بالتلفزيون الأردني الذي توجه إليه السهام، مع أنه يُنظر إليه باعتباره مؤسسة هرمة، ولا يمكن أن يكون المنصة الوحيدة التي يعوَّل عليها، للسيطرة على المركب المترنح، أو النفخ في الصور لإحياء الراقدين في التابوت.
إذا كان طموح 'مجموعة الصرخة' أن تعرض أعمالهم عبر شاشة التلفزيون الرسمي الذي هجره المشاهدون، وارتحلوا إلى فضائيات عربية أكثر جاذبية، وأعلى كعباً في التسويق والتشويق، فإنّ سقفهم يظل واطئاً، لأنّ المطلوب هو 'ثورة' في التعاطي مع قضية الدراما بوصفها منصة لتقديم الكثير من 'الرسائل' السياسية والوجودية لأي بلد، فالمشروعية لا تثبتها الخطابات والأدبيات الإنشائية، وحسب، بل الأهم من ذلك استقصاء الحالة الكيانية لأي بلد في الماضي والحاضر، من أجل إنتاج سردية بصرية بديعة ومتقنة تحترم العقل، ولا تغرق في الشعارات، ومدح الذات، وتصوير الدنيا كأنها 'قمرة وربيع' أو 'سمن وعسل'.
مؤتمر الاستثمار الثقافي
القضية، إذاً، ليست عرض مسلسل، بل رؤية إستراتيجية عميقة ومستدامة لمفهوم الثقافة بما ينطوي تحت أجنحتها من روافد كثيرة ومؤثرة. لقد أدركت دول عربية أهمية الاستثمار في الصناعات الثقافية والإبداعية، أو ما يعرف بـ'اقتصاديات الثقافة'. ولولا هذا اليقين الراسخ بقدرة الثقافة على صناعة التحولات في مجالات الحياة كافة، لما بادرت وزارة الثقافة السعودية إلى تنظيم 'مؤتمر الاستثمار الثقافي' الذي ستنطلق دورته الأولى غداً (الأحد) في الرياض، وتستمر حتى 30 الجاري، بهدف تمكين القطاع الثقافي، وتحويله إلى رافد اقتصادي من خلال إيجاد سوق ثقافية مستدامة، تدعم الاقتصاد الوطني، وتطور الصناعات الثقافية، وتخدم المبدع والمستهلك.
كانت وما تزال ثمة نظرة مهترئة وعتيقة عن الثقافة باعتبارها عبئاً على الدولة، لكنّ الزمن الآن انفجر، بعدما أصبح 'الاقتصاد الإبداعي' رافداً واعداً ومتنامياً يسهم في زيادة الناتج المحلي.
مصطلح 'الاقتصاد الإبداعي' تبلور على يد الكاتب البريطاني جون هوكينز، من خلال كتابه 'الاقتصاد الإبداعي: كيف يكسب الناس المال من الأفكار'. وفي هذا الكتاب، الذي شكل ما يشبه الفتح المعرفي، يعرف هوكينز الإبداع بأنه القدرة على إنتاج شيء جديد، ويرى أنّ وجود الاقتصاد الإبداعي هو إحدى طرق تنمية المواهب الإبداعية لدى الإنسان، من خلال ظهور الأفكار والإبداعات المتنوعة حتى تتمكن من المنافسة بجودة لا يمكن الشك فيها.
لا خشية في مغامرة الاستثمار في الثقافة، فوفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، تمثل الصناعات الثقافية والإبداعية 3.1% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي و6.2% من العمالة في جميع أنحاء العالم، فضلاً عن أنّ صناعات الاقتصاد الإبداعي تولّد إيرادات سنوية تزيد عن 2 تريليون دولار، وتوفر ما يقرب من 50 مليون وظيفة في جميع أنحاء العالم.