اخبار الاردن
موقع كل يوم -صحيفة السوسنة الأردنية
نشر بتاريخ: ٣ أيلول ٢٠٢٥
لن تبرح ذاكرتي، ما دام أنها لم تبرحني فجأة، ملامحُ حزن رشاد بشير الهوني، ولا نبرة الألم في صوته، إذ أقف إلى جانبه في شرفة مكتبه بمبنى دار «الحقيقة»، غير البعيد عن ثكنة عسكرية اسمها «معسكر البِركة»، بضاحية الفويهات البنغازوية. قال الأستاذ رشاد يومها بلهجته الليبية: «البلاد راحت... وَدَروها»، أي أضاعوها. كان ذلك يوم اثنين وافق الأول من شهر سبتمبر (أيلول) من عام 1969، الذي سَيُعْرف فيما بعد باسم «الفاتح» فقط، وتُضاف صفة «العظيم» إليه، بحكم الربط بينه وبين انقلاب أُعْطي لاحقاً وصف «ثورة»، نفذه عدد من صغار الرُّتَب، وشُبان الأعمار، في صفوف الضباط الليبيين، اختارهم واحداً بعد آخر، وبالتالي أصبح قائدهم، ضابطٌ كان يحمل حينها رتبة «ملازم أول»، اسمه معمر القذافي، ومعهم أطاح حكم الملك محمد إدريس السنوسي. حصل ذلك قبل ستة وخمسين عاماً من يوم اثنين، أيضاً، تصادف حلول ذكراه أول من أمس.
بالطبع، لم يفاجئني حزن رشاد الهوني، ذلك أن مؤسس صحيفة «الحقيقة»، إلى جانب شقيقه الأستاذ محمد بشير، كان مؤمناً بالنظام المَلكي للحكم، عن اقتناع تام به، وليس لمجرد المسايرة، ولذا لم يكن يتردد في الانتقاد عندما يبدو ذلك ضرورياً، ويمكنني القول بضمير مرتاح إنني سمعته يجادل مسؤولين كباراً، مثل عبد الحميد البكوش، وهو في موقع رئيس وزراء (1967 - 1968)، محذراً من خطر إغفال أخطاء حكومية قد تترتب عليها عواقب سيئة تدفع ثمنها ليبيا ككل. أُضيفُ كذلك أنني حظيتُ بأن أبدأ مشوار احتراف الصحافة تحت سقف الصحيفة ذاتها، فاطلعت على مقالات عدة قبل نشرها لكتاب ليبيين أبرزهم الصادق النيهوم، وخليفة الفاخري، وأنيس السنفاز، تتضمن صريحَ النقد لأخطاء توجب الإصلاح قبل فوات الأوان، إضافةً إلى تميز رسوم فنان الكاريكاتير الرائع محمد الزواوي بجارح السخرية إزاء جوانب عدة في المجتمع الليبي، سواء على الصعيد الاجتماعي أو السياسي.
كل ذلك، لم يَحُلْ دون اختلافي مع أستاذي الكبير رشاد الهوني بشأن نظرته. فمقابل حزنه لم أخفِ فرحتي بالتغيير الذي حصل. وهو من جانبه تعامل مع رؤيتي كشاب ذي اثنين وعشرين عاماً، بروح المتفهم لأحاسيس جموع الشباب العربي المنكسرة منذ هزيمة الخامس من يونيو (حزيران) 1967، وذهب أبعد، مِهنياً، فكلفني بكتابة افتتاحية «الحقيقة» يومياً فور عودتها للصدور بعد توقف دام أياماً. قال يومها بسخرية: «اكتب عن الانقلابيين (أبطال الفاتح)، كما تسميهم، ما تحب، وما شئت». ثم أضاف بتحدٍّ واضح: «الأيام بيننا». حقاً، الحق بَيِّنٌ، كما اتفق العقلاء دائماً، وكذلك الباطل. ولقد ثبتَ لي لاحقاً، كم كنتُ حالماً، وكم كان هو مُحِقاً.
ليس الغرض من هذه العُجالة أن أخوض في الوضع الليبي الراهن، فكُتّاب «الشرق الأوسط» الليبيون الأفاضل، هم الأفضل مني، والأقدر، على تحليل واقع بلدهم الآن، وهم يفعلون ذلك بهمة ونشاط ملحوظين، بَيد أن الأمر الذي قد يحتمل الاتفاق بشأنه، هو أن تضييع الليبيين لليبيا حصل أكثر من مرة، وأن الصراع عليها وقع مرات عدة، ولم يزل جارياً. إلى متى؟ الجواب في رحم الغيب.