اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٣٠ نيسان ٢٠٢٥
عبد الناصر والثورة المستمرة: هل تموت 'العروبة' بموت الزعماء؟
أحمد عبدالباسط الرجوب
بعد تأكيد أسرة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر صحة التسجيل الصوتي الذي جمعه بالعقيد معمر القذافي، والذي نُشر عبر قناتهم الرسمية، عاد سؤال قديم إلى الواجهة:
هل انتهى المشروع القومي لعبد الناصر بوفاته، أم أن 'العروبة' كفكرة نضالية تجاوزت الرجل لتتحول إلى رمزٍ يتجدد مع كل تحدٍّ؟
لكن السؤال الأهم يظل: لماذا يُعاد استدعاء هذا التسجيل اليوم تحديدًا؟ ولمصلحة من يُستخدم لتقويض شرعية النضال العربي ضد التطبيع والاحتلال؟
الاستماع إلى ما وراء الصوت
استمعت إلى التسجيل الذي يدور بين عبد الناصر والقذافي، وفي قراءة متأنية لما دار بين الرجلين، تكشفت لي جوانب عميقة تعيد رسم مشهد تلك المرحلة. التسجيل لم يكن محض وثيقة صوتية، بل نافذة على عقلية زعيم أدرك عمق الأزمة، وتعامل معها بمنطق الممكن لا المثالي.
أعادني ذلك الحوار إلى ملامح الحقبة الناصرية التي تقاطعت مع ثلاث مراحل محورية:
1. عبد الناصر ما قبل العدوان الثلاثي (1954 -1956).
2. عبد الناصر قائد الصمود (1956 – 1967).
3. عبد الناصر في مواجهة ما بعد النكسة (1967 – 1970) .
وبرغم أنني لست من معاصريه سياسيًا، ولا أنتمي تنظيميًا إلى 'الناصرية'، فإنني عروبي بالفطرة، وانتمائي غير القابل للمساومة هو للقضية المركزية: فلسطين، الجرح العربي النازف.وفي شغفي لفهم الحقيقة، وجدت في هذا التسجيل مدخلًا إلى تفكيك الخطاب، لا لمحاكمة عبد الناصر، بل لفهمه ... نشرح اكثر ونقول:
المنهج العلمي في تقييم التسجيل: السياق فوق النص
القاعدة الذهبية لفهم تصريحات الزعماء في لحظات الحرب هي تفكيك 'معادلة الدم والحديد' التي تحكم قراراتهم. التسجيل يعود لمرحلةٍ هي الأكثر تعقيدًا في تاريخ الصراع العربي-الصهيوني:
1. السياق العسكري: مصر تحتضر بعد نكسة 1967، لكنها تبني 'حائط الصواريخ' سرًا كتحضيرٍ لحرب أكتوبر، بينما تتفاوض علنًا لاسترداد سيناء.
2. السياق الإقليمي: عبد الناصر يواجه تمرد فصائل فلسطينية (كالجبهة الشعبية) ترفض أي تسوية، وعداءً بعثيًا عراقيًا يصفه بالخيانة، بينما يحاول الحفاظ على وحدة الصف العربي.
3. السياق الدولي: الاتحاد السوفييتي يرفض تزويد مصر بأسلحة متطورة، والضغوط الأمريكية تُحاصر أي خيار عسكري.
هنا، يُظهر التسجيل 'عبقرية التكتيك' لدى عبد الناصر: التحدث بلغة الدبلوماسية لإرباك الخصم، بينما يخفي تحضيرات الحرب. هل يُلام على إدارته لـ'لعبة الثعالب' في زمن الذئاب؟
ماذا قال التسجيل؟ وما الذي أثار الجدل؟
التسجيل لم يكن 'اعترافًا بالهزيمة'، بل تجسيدًا لما يمكن تسميته 'الرسائل المشفرة' في إدارة الأزمات. يمكن تلخيص منهج عبد الناصر كما يلي:
•الهجوم كأفضل دفاع:
عبد الناصر يهاجم القذافي لفظيًا، لا رفضًا لفكرة المواجهة، بل رفضًا للمزايدة العاطفية على قرار الحرب دون الجاهزية.
•المرونة الثورية:
قبوله الظاهري بمبادرة 'روجرز' – والتي وصفها لاحقًا بأنها 'مسمومة' – كان خطوة لشراء الوقت وليس استسلامًا، كما فعل السادات لاحقًا باتفاق كامب ديفيد لاستعادة سيناء دون قتال مباشر.
الجدل المصطنع حول التسجيل لا يهدف إلى قراءة عبد الناصر بل إلى تشويهه؛ يُراد تحويله من 'قائد في زمن الخسارة' إلى 'متآمر'، لتفريغ التجربة الناصرية من دلالتها التاريخية.
لماذا الغضب العارم؟ استحقاقات الراهن تتجاوز الماضي
الضجة لا تتعلق بما قاله عبد الناصر، بل بما نعيشه اليوم. السياق الإعلامي الحالي يُعيد طرح التسجيل لهدفٍ واضح:
1. تفريغ الرموز:
تحويل عبد الناصر من 'قائد مقاوم' إلى 'دبلوماسي مهادن' يسهّل تمرير موجة التطبيع الحالية، تحت شعار 'إذا فاوض الزعيم التاريخي، فلماذا لا نُفاوض نحن؟'.
2. تزوير الوعي:
إخفاء حقيقة أن عبد الناصر رفض أي لقاء مباشر مع قادة الكيان الصهيوني، مثل مقترح لقاء جولدمان، بينما تتهافت أنظمة اليوم على التنازلات المجانية دون مقابل.
3. الاستعمار الناعم:
الهجوم على 'العروبة المقاومة' هو جزء من مشروع أكبر لترويج ثقافة الخضوع على أنها واقعية، والنكوص على أنه حكمة سياسية.
عبد الناصر بين اللوم والعذر: زعيم لا قديس
ما يميز عبد الناصر هو أنه لم يطلب من أحدٍ أن يُقدّسه. تحمّل مسؤولية الهزيمة عام 1967 بشجاعة، وواجه تداعياتها كقائدٍ مدرك لحجم الأزمة، لا كبطل أسطوري. ومع ذلك، رفض الاستسلام.
•اللوم:
قبوله بوقف إطلاق النار وتجميد جبهات القتال، وتفاعله مع مبادرة روجرز، قد يُفسّره البعض على أنه تراجع.
•العذر:
كان كطبيب في غرفة الطوارئ: أوقف النزيف لينقذ المريض (مصر)، حتى وإن استخدم مشرطًا مؤلمًا في لحظة فارقة.
والسؤال الأهم: هل يمكن لقائد، في زمن المواجهات المكشوفة، أن ينجو من لعنة 'إما التقديس أو التشويه'؟
عبد الناصر بين 'اللوم' و'العذر': هل المطلوب قديس أم زعيم؟
الشاعر الجواهري وصف عبد الناصر بـ ' كان العظيم المجد والأخطاء ' ، وهذه إجابة بليغة:
•لا يُعذر عبد الناصر كليًا، لأنه كقائد تحمل مسؤولية قراراته، بما فيها قبول مبادرة روجرز رغم تداعياتها النفسية على الجماهير العربية.
•لكن لا يُلام كليًا، لأنه تصرف في سياق معادلة مستحيلة: إما التفاوض لإنقاذ ما تبقى من الجبهة، أو المخاطرة بانهيار كامل.
الأهم أن النقاش يجب ألا ينحصر في 'تطهير' عبد الناصر أو 'تدنيسه'، بل في استخلاص الدروس:
•كيف تُدار الصراعات في ظل اختلال موازين القوى؟
•ما حدود المرونة السياسية قبل أن تتحول إلى استسلام؟
خاتمة: التاريخ ليس محكمة.. بل مرآة
التسجيل المسرب ليس شهادة وفاة لعبد الناصر، بل صفعةٌ على وجه واقعنا العربي المهزوم! الرجل الذي حفر اسمه بدماء الثورة وأطلال الهزائم يطلُّ علينا اليوم من شريطٍ قديم ليسألنا: أين أنتم ممَّا صنعنا؟ لقد ترك لكم حائط الصواريخ فبنَيْتم جدرانًا من الخوف، وورثتم معركة العروبة فحولتموها إلى سوقٍ للمتاجرة بالدماء!
التسجيل يحرق الأسماع لأننا نعيش زمنًا باتت فيه المقاومة جريمةً، والاستسلام سياسةً. فليغضبوا من الغضب، ولتسقط الأقنعة.. فالشعب الذي لا يثور على هزائمه يستحقُّ أكثر من مجرد هزيمة!'
كاتب وباحث اردني