اخبار الاردن
موقع كل يوم -وكالة جراسا الاخبارية
نشر بتاريخ: ٢٨ نيسان ٢٠٢٥
في لحظة فارقة من التاريخ، وعبر كتابه 'الفرصة الثانية'، وقف زبيغنيو بريجنسكي، أحد أبرز العقول الاستراتيجية الأمريكية ومستشار الأمن القومي الأسبق، ليقول ما لم يكن مألوفًا آنذاك: 'المستقبل ليس في أمريكا، بل في مكان آخر'.
رجل الدولة الذي عايش ذروة القوة الأمريكية، والذي كان جزءًا من صناع القرار في الحرب الباردة، لم يقل كلمته عبثًا، بل عن دراية وقراءة عميقة لما وراء الأفق.
أشار بوضوح إلى أن أمريكا بدأت تخسر قدرتها على تشكيل العالم، وأن البنية التحتية المهترئة، والمطارات المتآكلة، ونظام التعليم المترهل، ومجتمعها المنقسم، ليست مواصفات إمبراطورية تقود المستقبل.
وبينما تجاهل كثيرون هذه التحذيرات، جاءت السنوات الأخيرة لتؤكد صواب الرؤية وعمق التنبؤ.
دونالد ترامب، السياسي الخارج من رحم 'أمريكا العميقة'، لم يأتِ ليحمل مشروعًا للمستقبل، بل ليقول للعالم كله: أمريكا لم تعد قادرة، وأمريكا تخاف، وأمريكا تنكفئ.
خطابه القومي، وجدرانه الحدودية، وشعاره 'أمريكا أولًا'، لم تكن إلا انعكاسًا لهشاشة الداخل الأمريكي، وتعبيرًا عن مرحلة انكماش وليست توسعًا.
لقد كان ترامب بمثابة الختم الرسمي على ما قاله بريجنسكي قبل أكثر من ١٥ عامًا: أمريكا هي الماضي، وليست المستقبل.
انظر إلى أمريكا اليوم:
طرقاتها متصدعة، ومطاراتها تفتقر لأبسط معايير الحداثة، ومدنها الكبرى يغرقها العنف والفقر والمخدرات. والنظام الصحي منهك، والتعليم بات امتيازًا لا حقًا، والانقسام السياسي والاجتماعي وصل إلى حدود تهدد وحدة البلاد ذاتها.
وفي المقابل، تتجه الأنظار إلى الشرق...
إلى الصين، التي فهمت مبكرًا دروس التاريخ، لم تتكئ على مجد قديم، بل شرعت ببناء مستقبل جديد. مدن تنمو من العدم إلى ناطحات السحاب في سنوات، وشبكة قطارات فائقة السرعة تُربط فيها أطراف البلاد بأعجوبة تكنولوجية، واستثمارات ضخمة في الذكاء الاصطناعي والفضاء والبنية التحتية، ومدارس تنتج أجيالًا لا تحلم فقط، بل تصنع الواقع.
الصين، ومعها عدد من القوى الصاعدة، أدركت أن المستقبل لا يُستورد، بل يُبنى لبنة لبنة، على أرض الواقع، وفي المصانع والمعامل والمختبرات، لا في صناديق الاقتراع المهترئة.
العالم يتغيّر، ومن يصر على التمسك بأمريكا كقطب أوحد، يعيش في وهْم لم يعد موجودًا إلا في الكتب القديمة.
حتى حلفاء أمريكا التقليديون بدأوا بمراجعة أوراقهم. وأوروبا تشكك، والخليج يوازن، وآسيا تصعد، وأفريقيا تتجه شرقًا، بينما أمريكا تلوّح بالعقوبات أكثر من المشاريع، وتهدد أكثر مما تبني.
إن من يراقب المشهد بعين مفتوحة، يعلم أن القرن الحادي والعشرين لا يُكتب في واشنطن، بل في بكين، وفي العواصم التي اختارت النهوض لا الانتظار.
أمريكا ليست القوة التي تبني العالم بعد اليوم، بل القوة التي تحاول تأخير تغيّره.
ولذلك، فإن كل من يربط مصيره بأمريكا، يربطه بماضٍ غابر، وبقوة فقدت بريقها، وانكشفت هشاشتها.
وكل من ينظر إلى الشرق وإلى الداخل لبناء الذات، يتجه فعليًا نحو المستقبل.
لقد انتهى زمن الحلم الأمريكي، وبدأ زمن الحقيقة الآسيوية.