الضغوط الاقتصادية تدفع سوريا إلى ترميم علاقاتها مع الصين

تشهد السياسة الخارجية السورية في الآونة الأخيرة تحولًا ملحوظًا في مسارها، إذ تحاول دمشق إعادة بناء علاقاتها مع قوى دولية كبرى بعد مرحلة طويلة من العزلة والانقسام الداخلي.

وفي هذا الإطار، أعلن وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني عن زيارة رسمية إلى الصين مطلع نوفمبر المقبل، مؤكدًا أن العلاقات بين البلدين “عادت إلى المسار الصحيح” بعد سنوات من الجمود الذي أعقب سقوط نظام بشار الأسد.

وتأتي هذه الخطوة في وقت تواجه فيه سوريا ضغوطًا اقتصادية غير مسبوقة، دفعتها إلى البحث عن حلفاء جدد وشركاء استراتيجيين قادرين على المساهمة في إعادة الإعمار وانتشال الاقتصاد المنهك من أزماته المتراكمة، وفقًا لصحيفة ساوث تشاينا مورننج بوست الصينية.

وتسعى دمشق، بحسب تصريحات الشيباني، إلى إعادة تعريف علاقتها مع بكين على أسس جديدة، بعدما كانت الصين من أبرز الداعمين السياسيين لنظام الأسد السابق، واستخدمت حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لصالحه في أكثر من مناسبة.

ويبدو أن التحول في الموقف الصيني يعكس رغبة بكين في الحفاظ على نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، ولكن ضمن إطار جديد يتناسب مع الحكومة السورية الحالية التي تحاول رسم ملامح سياسة أكثر توازنًا وانفتاحًا. فزيارة الشيباني المرتقبة إلى بكين تهدف إلى مناقشة مجالات التعاون الاقتصادي ودور الصين في عملية إعادة الإعمار، التي تحتاج فيها سوريا إلى استثمارات ضخمة وبنية تحتية متطورة بعد أكثر من عقد من الحرب والدمار.

وتدرك الحكومة السورية أن الصين تمثل شريكًا اقتصاديًا ذا وزن عالمي، خصوصًا مع مشروع “الحزام والطريق” الذي يتيح لبكين التمدد في الأسواق العربية من بوابة الاستثمارات والبنية التحتية والطاقة. ولهذا السبب، تراهن دمشق على شراكة اقتصادية طويلة المدى مع الصين تساهم في تحريك عجلة الاقتصاد المحلي وتوفير فرص عمل جديدة، في وقت تعاني فيه البلاد من ارتفاع معدلات البطالة وانخفاض الإنتاج الصناعي والزراعي وتدهور العملة الوطنية.

وقد أشار الشيباني بوضوح إلى أن سوريا “تحتاج إلى شراكات استراتيجية حقيقية، خصوصًا مع الصين، في مرحلة البناء والإعمار”، في إشارة إلى أن بكين قد تكون أحد الأعمدة الرئيسية في مرحلة ما بعد الحرب، وفقًا لصحيفة آراب ويكلي اللندنية.

ورغم التقارب المرتقب مع الصين، لم يُخفِ الشيباني وجود فتور في العلاقات مع موسكو، الحليف العسكري والسياسي الأبرز للنظام السابق. فقد أوضح أن روسيا ما زالت تعلق الاتفاقيات التي وُقعت في عهد الأسد، وأنه لم يتم التوصل إلى أي تفاهمات جديدة مع الحكومة الحالية.

واعتبر الشيباني أن مشاركة روسيا في “مأساة السوريين” قبل ما سماه “معركة ردع العدوان” تجعل العلاقة بين الطرفين حذرة ومبنية على إعادة التقييم لا على الامتداد التلقائي للماضي.

هذه التصريحات تعكس سعي دمشق إلى بناء سياسة خارجية أكثر استقلالية وتحررًا من ثقل النفوذ الروسي الذي طبع المرحلة السابقة بطابع عسكري صرف.

وفي موازاة التحرك شرقًا نحو الصين، تعمل سوريا أيضًا على إصلاح علاقاتها الإقليمية، وعلى رأسها العلاقة مع لبنان التي تدهورت خلال حكم النظام السابق. فقد أكد الشيباني أن الحكومة الحالية “غير مسؤولة عن الإرث الذي تركه النظام السابق” وأنها تسعى إلى إعادة بناء العلاقات على أساس من الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، مضيفًا أن قضية المعتقلين بين البلدين كانت ضمن أولويات الزيارة الأخيرة إلى بيروت، والتي مثّلت أول زيارة رسمية منذ سقوط نظام الأسد. وتأتي هذه الخطوة في سياق محاولات دمشق لاستعادة موقعها الطبيعي في محيطها العربي وإزالة الصورة السلبية التي خلفها النظام السابق في علاقاته مع دول الجوار.

من جهة أخرى، ما تزال سوريا تواجه تهديدات أمنية مستمرة، أبرزها الغارات الإسرائيلية المتكررة على أراضيها. وقد وصف الشيباني هذه الاعتداءات بأنها جزء من “مشروع توسعي إسرائيلي يسعى إلى فرض واقع جديد واستغلال التغيرات السياسية في البلاد”، مؤكدًا أن تلك الممارسات لا تزيد الوضع في المنطقة إلا توترًا وعدم استقرار.

كما شدد الوزير على رفض بلاده لأي مشاريع تقسيم أو فيدرالية، معتبرًا أن وحدة الأراضي السورية “ليست موضوعًا قابلًا للنقاش أو المساومة”.

وتأتي هذه التحركات السياسية والدبلوماسية في وقت يعيش فيه الاقتصاد السوري واحدة من أسوأ مراحله منذ الاستقلال، حيث انهارت البنى الإنتاجية وتراجعت القدرة الشرائية للمواطن، وازدادت معدلات الفقر إلى مستويات قياسية.

ومع تصاعد الاحتجاجات في محافظة السويداء وتجدد الاضطرابات الاجتماعية، تبدو الحكومة السورية مضطرة لتبني سياسة خارجية واقعية توازن بين حاجاتها الاقتصادية وإعادة تموضعها السياسي.

وفي ظل هذا المشهد، يبدو أن بكين تمثل رئة محتملة يمكن أن تضخ بعض الأوكسجين في اقتصاد دمشق الخانق، خصوصًا إذا ما نجحت الزيارة المقبلة في تحويل النوايا السياسية إلى مشاريع ملموسة.

وهكذا، فإن الضغوط الاقتصادية الخانقة باتت المحرك الأساسي لإعادة صياغة الدبلوماسية السورية، حيث تدفع دمشق اليوم باتجاه الصين لتعويض خسائر السنوات الماضية، وإعادة بناء موقعها في الإقليم عبر شراكات اقتصادية واستراتيجية جديدة، في محاولة للخروج من عزلة يفرضها التاريخ القريب والسياسة القديمة.