اخبار مصر
موقع كل يوم -صدى البلد
نشر بتاريخ: ٢٦ تشرين الأول ٢٠٢٥
لم تكن دموع الطفلة الفلسطينية ريتاج مجرد لحظة إنسانية في احتفالية 'مصر وطن السلام'، بل كانت رمزًا حيًا للألم والأمل معًا، ورسالة إنسانية تجاوزت حدود الجغرافيا والسياسة.
فقد جسّد حضورها بين صفوف الحفل، وجلوسها إلى جوار الرئيس عبد الفتاح السيسي، مشهدًا اختصر رحلة مأساة نجاةٍ نادرة من تحت الركام إلى منصةٍ تُكرّم فيها الحياة.
في قطاع غزة، حيث الموت يُجاور الحياة، روت ريتاج ذات الثماني سنوات تفاصيل قصتها بصوتٍ واهن وعيونٍ غارقة بالحيرة. فقد بُترت ساقها وفقدت عائلتها بأكملها في قصفٍ إسرائيليّ دمّر منزل جدّها، الذي لجأت إليه ظنًّا أنه أكثر أمنًا.
تقول ريتاج: 'أنا فقط نجوت'، وهي العبارة التي تلخّص حجم الفاجعة.
بعد أيامٍ قضتها تحت الركام، عُثر عليها وهي مغطاة بالغبار والدماء، لا يظهر من جسدها سوى بطن قدمها التي دلّت عليها فرق الإنقاذ. نُقلت إلى المستشفى وهي بين الحياة والموت، لتخضع لاحقًا لثلاث عمليات جراحية انتهت ببتر ساقها. ومع ذلك، لم تنكسر الطفلة التي واجهت الألم بابتسامة أكبر من جراحها، قائلة: 'الدود كان يطلع من رجلي، قطعوها مرة واثنين وثلاثة، بس أنا لسه عايشة'.
فقدت ريتاج والدها، ووالدتها، وإخوتها جميعًا، وعمّها، في لحظة واحدة من القصف الذي استهدف بيت جدّها في منطقة جحر الديك.
كانت العائلة قد نزحت من منزلها إلى مدرسة تابعة لوكالة 'الأونروا' هربًا من القصف، لكن الاحتلال الإسرائيلي لم يترك لهم ملجأ.
وقالت الطفلة في أحد المقاطع المسجّلة: 'ما كنتش متخيلة إن الجيش ممكن يدخل المدرسة، بس شفته بعيني، قصف المدرسة، وبابا اتصاب، وهربنا ع بيت سيدي، فكرناه آمن.. بس هناك خلص كل شيء'.
ورغم ما مرّت به، لم تفقد ريتاج إدراكها البريء بأن العالم صامت أمام معاناة غزة، فقالت في لحظة عجزٍ مؤثرة: 'كل اللي بدي أحكيه مش هيغيّر شيء.. إذا القصف ما صحّاهم، مأساتي هتعمل إيه؟'
ووسط الأضواء والموسيقى في احتفالية 'مصر وطن السلام'، كانت ريتاج هي صوت غزة الحيّ. فقد خطفت الأنظار بمجرد ظهورها على شاشة الفيلم التسجيلي الذي عُرض خلال الحفل، لتروي فيه قصتها قائلة: 'أنا قعدت يومين تحت الركام، وفي نص الليل جه شاب قالي أنا ما عرفت أنام وجيت بدي أنقذك، قعد يحفر ويحفر وفي الآخر طلعني، بس ما لقيتش رجلي.'
ثم ظهرت رسالتها المؤثرة للرئيس السيسي ببراءة طفولية: 'أنا عاوزة أطلب من أبويا عبد الفتاح السيسي طلب صغير.. نفسي أشوفك وأسلم عليك وأبوس راسك.'
واستجاب الرئيس فورًا، مبتسمًا وهو يقول لها: 'تعالي'. اقتربت الطفلة بخطواتٍ مترددة على ساقها الصناعية، فاستقبلها الرئيس بحنانٍ أبوي، قبّل رأسها، وأجلسها إلى جواره حتى نهاية الحفل.
كان المشهد إنسانيًا بامتياز، نقل للعالم صورة مصر التي تحتضن أبناء العرب في محنهم، ومصر التي ترفض التهجير وتفتح ذراعيها للناجين من الموت.
ورغم فقدانها كل شيء، لا تزال ريتاج تحلم بالعودة إلى غزة. تحكي بابتسامة طفلة لم يسرقها الألم: 'لما كنت في المعبر، لقيت ترحيب من المصريين، وكان أحلى يوم في حياتي. لما أرجع غزة، نفسي أكون رسّامة، وإن شاء الله هنرجع، وهيعملوا نفس الشوارع اللي كانت قبل الحرب.'
وفي أحد مشاهد الفيلم، بدت وهي تلعب في مدينة الملاهي، تضحك كما لو أنها تستعيد طفولتها المسروقة، لتصبح رمزًا لكل طفلٍ فلسطيني نجح في انتزاع الحياة من بين أنياب الموت.
قصة ريتاج ليست مجرد حكاية نجاة، بل صرخة ضميرٍ في وجه العالم الصامت. الطفلة التي فقدت ساقها وأسرتها وبيتها، وجدت في مصر وطنًا ثانيًا يمنحها الأمان ويعيد لها الطفولة.
وبينما كانت تجلس إلى جوار الرئيس السيسي، كانت تمثل أملًا جديدًا في قلب الظلام، ورسالة صامتة للعالم أن الفلسطينيين لا يموتون فقط.. بل يحلمون، ويقاومون، ويبتسمون رغم كل شيء.
وفي نهاية الحفل، ومع عزف النشيد الوطني المصري، بقيت ريتاج واقفة تنظر إلى الأعلام المرفوعة، في مشهدٍ اختصر الحقيقة الأعمق: أن مصر وطن السلام.. ووطن الإنسان.


































