اخبار مصر
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٧ تشرين الأول ٢٠٢٥
نجوم الماضي قدموا عشرات الأغنيات التي احتفت بالنهر كرمز قوي وحضوره الفني يبدو باهتاً أخيراً
يفيض نهر النيل ويفيض معه النغم، وينساب معه الشعر والقصة والمسرح والسينما والفن التشكيلي بأنواعه كذلك، فكثيراً ما كان لنهر النيل حضور قوي في وجدان المصريين، يدينون له بالاستقرار الذي كان ركيزة أساسية من ركائزه صنع الحضارة الصامدة، وعلى رغم غضبات النهر التي هددت الحيوات والتهمت ما أمامها، لكن المصري تعلم التعامل معها على مدى القرون، ولم تنسه الأخطار التي كان يسببها الفيضان امتنانه لهذا المجرى المائي العذب الذي يرسم خطاً للخصوبة والنماء والجمال في جغرافيا البلاد المتنوعة.
من هنا كان يدللـه بكل الطرق، وصنع له قدماء المصريين عيداً للوفاء لا يزال يحتفى به في منتصف أغسطس (آب) من كل عام حتى اليوم، كذلك كانت الأناشيد والأغاني التي تحتفل بالنيل حضوراً قوياً في الثقافة الشعبية المصرية.
في الفترة الأخيرة تكررت سيرة مصدر المياه الأولى في مصر على مستويات أخرى، إذ تشتد اللهجة الرسمية في انتقاد إدارة إثيوبيا المنفردة سدها المائي مما يهدد حقوق دول الجوار، ويتزامن معها حدوث فيضانات للنهر أغرقت أفدنة من الأراضي في محافظة المنوفية شمال القاهرة، جنوب دلتا النيل، وسط متابعة جدية للوضع الذي يحدث بصورة اعتيادية، لكنه يكتسب أبعاداً أخرى هذه الأيام بسبب أن المنطقة المهددة مأهولة بالسكان، فالنيل الذي يعتبر خلفية متكررة ليوميات المصريين وموضع نزهاتهم المفضلة والأكثر انتشاراً، تتعدى رمزيته فوائده الجمة، إنما يتغلغل في الشعور ويصبح مصدراً دائماً للإلهام، ولهذا كان بطلاً للأغنيات الوطنية والعاطفية على السواء، وحتى تلك الشعبية التي غناها المزارعون في أثناء ري الأراضي، فهو يسهم بلا شك في رسم هوية الأغنية المصرية.
عملياً، تستشعر 11 دولة أفريقية هي دول حوض النيل، عظمة أطول أنهار العالم، لكنه يكتسب خصوصية استثنائية لدى المصريين، فذكرياته وإرثه لديهم ارتبط بالبناء والنماء والخصوبة والاستقرار، بخاصة بعدما عرفوا كيفية تجنب أخطاره واستفادوا من فائض مياهه فلم يعد يمثل هاجساً غامضاً وخطراً.
ألهم النيل شعراء مصر وموسيقييها وملحنيها ومطربيها على مدى العصور، إذ غنت له أم كلثوم 'من أي عهد في القرى تتدفق وبأي كف في المدائن تغدق/ ومن السماء نزلت أم فجرت من عليا الجنان جداول تترقرق'، وهي القصيدة التي كتبها أحمد شوقي ولحنها رياض السنباطي. السنباطي أيضاً كان وراء الأغنية الوطنية الحماسية لكوكب الشرق 'سلاماً شباب النيل في كل موقف'، بكلمات إبراهيم ناجي، إذ تعتبر أم كلثوم من أكثر من غنوا للنيل، ولها أيضاً مع السنباطي وكلمات بيرم التونسي 'شمس الأصيل دهبت خوص النخيل يا نيل'.
ولم ينافس أم كلثوم سوى محمد عبدالوهاب في هذا المضمار، ومن أبرز أغنياته هنا قصيدة 'النهر الخالد' من تلحينه وكلمات محمود حسن إسماعيل كواحدة من أهم وأبدع الأغنيات التي دللت نهر النيل، ورسمت له صورة شديدة الشاعرية والوقار، وكذلك الأغنية العاطفية 'إمتى الزمان يسمح يا جميل واسهر معاك على شط النيل'، فكيف يمكن لمجرى مائي أن يسحر كبار صناع الأغنية بهذه الصورة، وهل هو نوع من استشعار الفضل الكبير للنهر على الحياة، ولماذا يبدو اختصاراً ومرادفاً للوطن في مواضع كثيرة؟
يفسر أستاذ الغناء والموسيقى في أكاديمية الفنون الدكتور محمد شبانة هذه السطوة الإبداعية والعاطفية بأن نهر النيل مصدر عطاء ومحبة وبهجة وانطلاق، ولهذا يتدفق معه الإبداع، كذلك فإنه مرتبط بالسهر والسمر، وبالطبع مصر هبة النيل والمصريين.
ويضيف شبانة الذي قدم دراسة بحثية حول تأثيرات نهر النيل في الأغنية المصرية 'نهر النيل حاضر في الأغنيات العاطفية والوطنية، وتلك التي يغنيها الفلاحون البسطاء في أثناء الري، واللافت أنه يتغلغل ويتسرب لكلمات الأغاني حتى بصورة مباشرة وغير مباشرة، وليس بالضرورة أن تكون الأغنية عن النيل حتى نلمس حضوره، هو كائن ملهم في مشاعر الحب والولاء والامتنان، فهو لا ينفصل أبداً عن الوطن، لأنه يمنح الشعور بالأمان، مصدراً للحياة وللشرب والري والتنزه والطقس الجيد'.
يشير الأكاديمي محمد شبانة إلى أن نهر النيل يمر من دول كثيرة، وله بالطبع حضور في ثقافاتها الشعبية، لكنه في مصر يتسم بزخم خاص، وحضور في الفلكلور، والمقولات الشعبية والأمثال، فالمصريون في أغنيتاهم يعلنون أنهم يدافعون عنه بأرواحهم، لأن لديهم فهماً عميقاً وإدراكاً قوياً بأنه ساقي هذا البلد، موضحاً أن هذا ربما نابع من أن كثيراً من تلك البلدان حتى وقت قريب لا تزال تتجرع غضبات النهر حينما يفيض.
ويوضح شبانة أن 'جزءاً من المحبة المصرية لنهر النيل، هو أن التعامل معه منذ أيام الحضارة المصرية القديمة، حمل محاولات ناجحة لترويضه، فمنذ فجر التاريخ جرى ابتكار أنظمة الري للاستفادة من الماء في المشاريع الكبيرة، ثم جرى بناء السد العالي في العصر الحديث، فالنيل جزء من الطبيعة التي يكتنفها الغموض بطبيعة الحال، لكنه يصبح غموضاً ساحراً يلهم المبدعين ولا يخيفهم'.
بالفعل فقد أثرى النيل المفردات المصرية بما يمكن تسميته لغة النيل أو بتكوينات ثقافية مستقاة من طبيعته، مثل حكايات الجنيات الخرافية، وصولاً إلى تسميته بحر النيل، وكانت الكاتبة الراحلة نعمات أحمد فؤاد التي نالت الدكتوراه في موضوع 'النيل في الأدب العربي' مطلع خمسينيات القرن الماضي، قد سجلت في كتابها 'النيل في الأدب الشعبي'، الذي صدر عام 1997، هذا التأثير القوي للنيل في حياة المصريين مما ترسخ بدوره في الفنون بكل أنواعها، لا سيما الأغاني التي يرددها العامة، مشيرة إلى أن هناك ما يسمى أغاني 'سمك النيل'، و'القلل' التي تملأ من النيل، وكذلك أغاني الزراعة التي ترتبط بالنهر بصورة مباشرة، لافتة إلى أن المصريين طوال الوقت لديهم اعتراف بالجميل للنيل، وخوف كبير أيضاً عليه من الطامعين.
كان النيل رمزاً لا يغيب في الأحداث الوطنية الكبرى، فرجال القوات المسلحة المصرية يرددونه في نشيدهم الذي كتبه الشاعر فاروق جويدة 'رسمنا على القلب وجه الوطن، نخيلاً ونيلاً وشعباً أصيلاً/ وصناك يا مصر طول الزمن ليبقي شبابك جيلا فجيلا... وتنساب يا نيل حراً طليقاً لتحكي ضفافك معنى النضال'، كما غنى له سيد درويش أغنيته الحماسية الشهيرة 'قوم يا مصري' التي تزامنت مع ثورة 1919 ويقول في مقطع منها 'نيلها جي السعد منه حلال بلال/ كل حي يفوز برزقه عيشته عال'، بخلاف أن النشيد الوطني المصري الذي كتبه محمد يونس القاضي ولحنه سيد درويش أيضاً به عبارة 'وعلى كل العباد كم لنيلك من أيادي'، فيما سمي حافظ إبراهيم بشاعر النيل، ومن بين أسباب التسمية الحضور الطاغي للنهر في أبياته، وبينها أغنية 'مصر تتحدث عن نفسها' لكوكب الشرق التي تبدو كمن وهبت نفسها للغناء لنهر النيل، وتقول في مقطع من القصيدة الشهيرة 'أمن العدل أنهم يردون الماء صفواً وأن يكدر وردي'، إذ تحذر فيه من يحاول المساس بمياهه.
فيما غنى محمد عبدالوهاب في منتصف الستينيات للنيل مجدداً، احتفالاً بتحويل مجراه في أغنية يقول مطلعها 'حولنا مجرى النيل/ يا سلام على ده تحويل'، وصولاً إلى 'والسد ما عادش خيال/ ده حقيقة ومالها مثال'، و'اجري يا نيل'، وكثير من الأعمال الأخرى أداها عبدالوهاب عرفاناً بقيمة النهر وتشجيعاً للجماهير على السعي والاجتهاد والتطور، وأهمها وأعظمها 'النهر الخالد'، كما غنى عبدالحليم حافظ 'يا تبر سايل بين شطين ومية'، وتألقت نجاح سلام في أغنيتها الوطنية إبان العدوان الثلاثي 'أنا النيل مقبرة للغزاة'.
أمّا الأغنية الأشهر للعندليب، التي احتفى فيها بنهر النيل هي 'حكاية شعب' التي توثق تجربة بناء السد العالي لحماية البلاد من الفيضان والجفاف، وقد صدرت عام 1960 تزامناً مع الحدث، كذلك لم تفوت أم كلثوم المناسبة وقدمت قصيدة 'السد' في نفس العام، حيث تعتبر حقبتي الخمسينيات والستينيات هما الفترة الذهبية لأغنيات النيل، لأسباب وطنية نظراً إلى الزخم السياسي في تلك الفترة التي أعقبت ثورة 23 يوليو.
تبدو قائمة المطربين الذين احتفوا بالنيل طويلة وبينهم نجاة بأغنية 'يا نيل يا اسمراني'، وشادية 'على شط النيل'، إضافة إلى مقطع شهير من أغنيتها الوطنية 'يا حبيبتي يا مصر' يقول 'ولا شاف النيل في أحضان الشجر/ ولا سمع مواويل في ليالي القمر، أصله ماعداش على مصر'، إضافة إلى أسماء مثل عادل مأمون وليلى مراد ومحمد عبدالمطلب، كذلك حضر النيل كصورة في خلفية آلاف المشاهد البارزة في الأفلام والسينما المصرية وأبرزها 'ثرثرة فوق النيل'، والأغنيات المصورة كذلك، إذ يعتبر شاطئه ملاذاً لاستجمام ونزهة محببة تلائم كل الفئات المجتمعية.
اللافت أن بالتوازي مع نبرة التهديد والوعيد الحاضرة في الأغنيات الوطنية التي استحضرت النيل، هناك أيضاً لهجة مبتهجة ومختلفة وناعمة متوددة في أعمال كثيرة، فمثلاً السنباطي وأحمد رامي باعتبارهما أشهر من لحن وكتب للنيل قدما عدداً متنوعاً من أغنيات النيل، من بينها أغنية يقول مطلعها 'يا مية النيل السعيد، يا جاية مصر من بعيد، الخير على قدومك يزيد'، وهي تحولت إلى أغنية شعبية من الفلكلور كذلك يؤديها أهل الجنوب حينما يفيض النيل خصوبة وعماراً.
وتدريجاً سيطر أسلوب العاطفة والهدوء على الأغنيات، تزامناً مع الوضع السياسي المستقر، فمن ضمن الأغنيات الشعبية في مدن القناة 'آه يا لاللي يا لاللي يا لاللي يا أبو العيون السود يا خلي، أصل الزبيب من العنب والطمي من نيلي يا لا لاللي'، التي استلهم منها محمد منير أغنيته الشهيرة 'يا لاللي'، ومنير مقارنة بنجوم جيله من أكثر المطربين الذين تغنوا بالنيل، ومن بين أبرز أعماله 'يا عروسة النيل'، وأغنية 'النيل'، إضافة إلى الديو الشهير الذي قدمه مع عمرو دياب 'القاهرة ونيلها' من كلمات تامر حسين، وحضور النيل في أغنيات منير نابع من طبيعة تجربته الفنية ومن أصوله إذ نشأ وتربى على ضفاف النهر في مدينة أسوان التي يشكل النهر ملمحاً أساساً من يوميات ناسها.
كما قدم عمار الشريعي وهدى عمار من كلمات سيد حجاب أغنية 'حبيبتي من ضفايرها طلع القمر'، 'لولاه يضيع قلبي المحب الوديع، يا حلوة يا بلدنا يا نيل سلسبيل، بحبك انت رفعنا راسنا لفوق'، التي تعد من أشهر وأعذب أغنيات النيل، وكذلك غنى هاني شاكر ومحمد ثروت في أغنيتهم 'بلدي': 'أنا مهما أشرق وأغرب مهما أبعد أتاريني بقرب وأملى كفوفي من النيل واشرب حلوة الميه لو مصرية... يا بلاد الثورة العربية يا مصر يا أم الوطنية، على صفحة نيلك وقناتك صورة لتاريخك ونضالك'.
لكن في مراحل تالية بات حضور نهر النيل طفيفاً للغاية في الغناء، وعلى رغم كونه بحسب التصريحات الرسمية مادة متجددة أخيراً تزامناً مع أزمة سد النهضة الإثيوبي الممتدة، فإنه يغيب بصورة ملحوظة سواء في التغني به بصورة مباشرة، أو حتى رمزاً للرومانسية والعاطفة، في حين كان لفظاً متكرراً في أغنيات نجوم الزمن الماضي.
لكن يبدو الأمر شحيحاً في هذا العصر، حيث ذكرته ريهام عبدالحكيم في أغنية 'فيها حاجة حلوة' قبل نحو 15 عاماً في مقطع كتبه أيمن بهجت قمر: 'مولد السيدة والذكر والهيصة، وركعتين بركة في السيدة نفيسة، المشي على الكورنيش والبركة في لقمة عيش'، كما تعتبر أغنية 'ما شربتش من نيلها' التي صدرت في الفترة نفسها تقريباً ولحنها عمرو مصطفى وكتبتها نور عبدالله، من أشهر الأغاني التي استحضرت نهر النيل في تنويعة على معنى المثل الشعبي المصير الشهير أن من يشرب من ماء النيل يعود إليه.
يفسر الناقد الموسيقي أشرف عبدالمنعم هذا الابتعاد عن قيمة ومعنى النيل في الأغاني أخيراً، بأنه نوع من الانفصال عن الواقع القومي والوطني، وهو مرتبط في رأيه بأن الجيل الحالي من صناع الموسيقى في مصر لا يتمتعون بالوعي الكافي الذي يؤهلهم للالتحام مع الهموم الوطنية، والالتصاق بالوجدان الشعبي، مشيراً إلى أن الأمر قد ينطبق على مجالات أخرى من الفنون، لكنه أكثر وضوحاً في الإنتاج الغنائي.
وأضاف عبدالمنعم 'المبدع يجب أن يكون قارئاً ومتابعاً ومطلعاً، ولديه وجهة نظر في ما يجري، وحتى في فكرة الفن نفسها، أن يكون به عمق، وليس موضوعات مكررة وتقليدية عن الحب والهجر، فهناك فرق شاسع بين مستوى مطربي هذه الأيام ونظرائهم من الزمن الماضي، فنهر النيل ليس رمزاً قومياً ووطنياً فحسب، إنما هو ملهم على كل المستويات، وعلى رغم تغلغله في ثقافة ومشاعر الناس، فإن كتاب الأغاني هجروه عن قلة وعي بالأساس، وعن رغبة في تكرار وتقليد المصطلحات والمعاني الناجحة، والنتيجة أن الأعمال تنتهي بمجرد طرحها ولا تصمد'.
ويرى الناقد الموسيقي أشرف عبدالمنعم أن هناك محاولات بالطبع للتميز، ولكنه يشدد على أن المبدعين الحقيقيين يتوارون لمصلحة موجة التراجع، إذ يلخص البعض القضايا الوطنية والقومية في تدوينة على السوشيال ميديا يتصدرون بها التريند، من دون أن يدركوا أن الفن والوجدان الوطني لا ينفصلان، ومن دون أن يدركوا أن التنوع هو شريان الحياة لهذا المجال.


































