اخبار مصر
موقع كل يوم -الرئيس نيوز
نشر بتاريخ: ٥ تشرين الأول ٢٠٢٥
تستمر سياسة إثيوبيا التي أطلقت عليها صحيفة 'أفريكا إنتلجنس' اسم 'سلام المقابر'، وتتمثل تلك السياسة في المزيد من القيود الخانقة التي تفرضها حكومة رئيس الوزراء آبي أحمد على المعارضة في تيجراي.
وعلى الرغم من مرور ما يقرب من ثلاث سنوات على توقيع 'اتفاقية بريتوريا'، تلك الوثيقة التي وُصفت بأنها بداية السلام بين الحكومة الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، لا يزال المشهد في شمال إثيوبيا بعيدًا كل البعد عن التعافي السياسي، بل يحذر فريق من الخبراء من أن إقليم تيجراي ربما يقترب من شفا اندلاع الصراع مع الحكومة المركزية في أديس أبابا مجددًا.
فبدلًا من أن تتحول الاتفاقية إلى جسر للمصالحة، يبدو أنها كانت مجرد أداة لإحكام سيطرة آبي أحمد على الإقليم، وفرض قيود مشددة على القوة التي حكمت البلاد لثلاثة عقود. إن السلام في تيجراي اليوم هو 'سلام مشروط'، يرتكز على نزع سلاح المعارضة بالكامل، وإعادة بسط الهيمنة الفيدرالية، وهو ما يثير أسئلة وجودية حول مستقبل الديمقراطية والتعددية في إثيوبيا.
نزع سلاح المعارضة.. شرط البقاء
القيود المفروضة على معارضة تيجراي ليست مجرد إجراءات روتينية؛ بل هي بنود صارمة ومقننة داخل وثيقة بريتوريا نفسها. أهم هذه الشروط وأكثرها وطأة كان الإذعان الكامل لإجراءات نزع سلاح القوات الدفاعية لتيجراي التي كانت العمود الفقري لجبهة التحرير، ولم يقتصر الأمر على الأسلحة الثقيلة، بل شملت التعهدات نزع سلاح المقاتلين الأفراد وإدماجهم في برنامج شامل للتسريح وإعادة الإدماج
هذا الشرط، الذي تم نقله بالتفصيل عبر تقارير دولية وعبر الوثيقة الرسمية نفسها، قضى عمليًا على القوة العسكرية للمعارضة، وحولهم من طرف حرب ندّي إلى كيان سياسي هش، وفي المقابل، استعادت الحكومة الفيدرالية بجيشها السيطرة الكاملة على ميكيلي عاصمة الإقليم وعلى الحدود والمرافق الفيدرالية، وهي الخطوة التي أنهت أي مفهوم لـ 'الحكم الذاتي' أو 'الندية' التي كانت تتمتع بها الجبهة الشعبية. كما حظر الاتفاق على جبهة تحرير تيجراي أية محاولات مستقبلية لـ 'التجنيد أو التدريب أو نشر القوات'، ما ضمن أن أي نشاط مستقبلي للجبهة يجب أن يمر عبر القناة الفيدرالية الضيقة.
التضييق الإعلامي والسياسي: تجميد المجال العام
لكن القيود لم تقتصر على الجانب العسكري وحده. ففي الأشهر التي سبقت الاتفاق وخلاله، طبقت حكومة آبي أحمد سياسات خنق للمجال العام، لم تستهدف تيجراي فحسب، بل امتدت لتشمل مناطق أخرى مثل أمهرة وأوروميا.
وفي ذروة الصراع، فرضت الحكومة رقابة إعلامية صارمة، حيث حظرت توزيع أي معلومات تتعلق بـ 'نتائج المعارك أو تحركات الجيش' لم يتم الإفراج عنها رسميًا، في إجراء ذكرت تفاصيله صحيفة 'فويس أوف أمريكا'، كما تم تجريم استخدام المنصات الإعلامية لدعم 'المجموعة الإرهابية' (في إشارة إلى جبهة تحرير تيجراي، وهذا التكتيك الفعال لم يقم فقط بحجب صوت المعارضة، بل روّج للرواية الحكومية باعتبارها الحقيقة الوحيدة المتاحة للجمهور.
أما على الصعيد الحقوقي، فقد اعتمد آبي أحمد بشكل متزايد على إعلان حالات الطوارئ لتعزيز قبضته. وقد أشارت تقارير منظمة العفو الدولية ومنظمات حقوق الإنسان إلى أن هذه الحالات منحت السلطات صلاحيات واسعة للاعتقال دون مذكرة قضائية، وتقييد حرية التعبير، وحظر التجمعات العامة، مما أدى إلى اعتقالات جماعية للناشطين والصحفيين والمعارضين السياسيين خارج تيجراي وداخلها. هذا التوسع في استخدام القوة القسرية يؤكد أن عهد آبي أحمد، الذي بدأ بالإفراج عن السجناء السياسيين، قد تراجع إلى نموذج يكرس الهيمنة المركزية على حساب الحريات الأساسية.
ما بعد السلام: هل تحولت الجائزة إلى نقمة؟
تجدر الإشارة إلى أن التناقض الصارخ بين آبي أحمد الحائز على جائزة نوبل للسلام لعام 2019 وبين القائد الذي يفرض قيودًا خانقة على معارضيه هو ما يغذي الشكوك الدولية حول مسار إثيوبيا. الاتفاقية، رغم أنها أنهت سفك الدماء، لم تضع حدًا للمشكلة السياسية العميقة المتعلقة بالتنافس العرقي والسلطة المركزية.
واليوم، تبدو جبهة تحرير تيجراي، القوة التي كانت تحكم إثيوبيا لعقود، في موقف ضعف غير مسبوق. ويبدو الالتزام بـ'الحوار الوطني' الذي اقترحته حكومة آبي أحمد لكثير من المراقبين مجرد إطار شكلي، يُمارس ضمن 'الحدود الضيقة للهيمنة الحكومية المستمرة'، حسب تحليل مراكز الأبحاث الدولية. وكانت اتفاقية بريتوريا قد ضمنت سيطرة الجيش الفيدرالي وقيّدت قدرة تيجراي على العمل كقوة سياسية مستقلة.
هذا السلام، الذي تحقق على حساب التجرد من القوة، يثير التساؤل حول مدى استدامته في غياب أي حلول سياسية حقيقية تعالج جذور التنافس العرقي واللامركزية، تاركةً إثيوبيا الآن عند مفترق طرق: إما أن تنجح الحكومة في ترجمة السيطرة العسكرية إلى مشروع سياسي جامع، أو أن تؤدي القيود الخانقة إلى توليد موجة جديدة من الاضطرابات في المستقبل.