تهجير الشمال.. «الأسبوع» ترصد شهادات من أرض الواقع

قبل ساعات قليلة من اغتيال «عمر بلعاوي» برصاص طائرة مسيرة إسرائيلية، أثناء وجوده في شرفة منزله، بحي الشيخ رضوان، شمال قطاع غزة، حاولت «الأسبوع» التواصل معه، باعتباره أحد شهود العيان، على شروع إسرائيل في تنفيذ الجزء الثاني من مخطط التهجير القسري (التطهير الموسع) فهي تعمل على دفع ما تبقى من سكان شمال القطاع إلى منطقتي الوسط والجنوب، استغلالا للانشغال الإقليمي والدولي بعدوانها على جنوب لبنان، وردها المرتقب على إيران، التي استهدفتها بمجموعة صواريخ باليستية!

في الفترة الفاصلة بين التواصل مع «عمر بلعاوي» واغتياله، لم تتوقف الغارات الجوية الإسرائيلية، وعمليات الاستهداف، مع مبادرة قوات الاحتلال بقطع الاتصالات، لعزل شمال غزة عن العالم، ما منعنا من الحصول على شهادته الموثقة، بخصوص ما يتم على الأرض. «عمر»، كان يعمل مدرسا، ضمن 22 ألف معلم ومعلمة، ينشطون في مدارس غزة (الحكومية، الخاصة، والتابعة لوكالة الأونروا) قبل تعرض معظمها للتدمير والخروج من الخدمة، منذ الثامن من أكتوبر 2023، فاتجه، خلال العام الأخير، للعمل في المجال الإعلامي والصحفي.

ظل «عمر بلعاوي» حتى اغتياله، يتمسك بالبقاء في شمال القطاع، لدرجة أنه كتب قبل اغتياله مباشرة: «صامدون. لن نرحل من شمال غزة، إلا للسماء» بالتزامن مع تسريع قوات الاحتلال تنفيذ السيناريو الجديد للتهجير القسري، مستهدفة التجمّعات السكانية في محافظة شمال غزة (بيت لاهيا، بيت حانون، منطقة ومخيم جباليا، مشروع بيت لاهيا، منطقة السلاطين، بير النعجة، العطاطرة، ومنطقة الصفطاوى.. .) بهدف طرد ما يتراوح بين 250 إلى 300 ألف فلسطيني، إلى الجنوب، ثم إلى خارج القطاع نفسه.

يشرح السياسي الفلسطيني، هلال المصري (من أهالي بيت لاهيا) لـ«الأسبوع» ما يتم من قوات الاحتلال: «يستخدمون القصف المدفعي والغارات الجوية، والتوغل البري من المناطق الشرقية والغربية. يطالبون الجميع بالتوجه للوسط والجنوب. تتنوع أساليب التهديد الإسرائيلية للسكان: رسائل نصية، منشورات، إعلانات تحذيرية- حصلت 'الأسبوع' على نماذج منها- كلها تحذر من عمليات عسكرية مرتقبة، وتطالب بسرعة إخلاء المنازل، لأن البقاء سيؤدي إلى عواقب وخيمة. يحاولون توسيع نطاق الضغط النفسي والذعر بين سكان شمال القطاع. تُرسل الطائرات المسيرة رسائل مباشرة لأهالي الأحياء والتجمعات المستهدفة، مرحليا، كي يتوجه من يعيشون فيها إلى طرق وممرات ضيقة، تتحكم فيها قوات الاحتلال، وتحدد مصير من يسلكها.

قبل الشروع في تنفيذ السيناريو الجديد للتهجير القسري، كثفت القوات الإسرائيلية عمليات جمع المعلومات الاستخباراتية التفصيلية حول التركيبة السكانية لشمال القطاع، البنية التحتية المدنية، والأماكن الحيوية بواسطة الطائرات المسيرة، والأقمار الصناعية، وأجهزة التجسس، مع تحليل الأهداف المدنية والعسكرية، وتحديد الأهداف الأكثر ضغطا على المدنيين، كاستهداف المدارس، المستشفيات، والملاجئ، التي تُستخدم كأماكن إيواء للسكان، مع تكثيف الغارات الجوية، على المناطق ذات الكثافة السكانية الكبيرة، والطرق الرئيسية، لمنع التنقل، وترويج شعور عدم الأمان بين الأهالي، لإجبارهم على مغادرة مناطقهم».

يكشف الناشط الفلسطيني، ضياء كحلوت لـ«الأسبوع» عن أن «الاستهداف الإسرائيلي يطول كل كائن حي في الشوارع. يطلبون من الناس النزوح من مناطقهم، عبر ممرات محددة، أشهرها شارع صلاح الدين، لكنهم يطلقون الرصاص على المارة. هي خلطة دموية متناقضة لا تجيدها سوى إسرائيل. يتم إطباق الحصار على شمال غزة. أصبحت مناطق مخيم وبلدات جباليا البلد، وبيت لاهيا ومنطقة المشروع، وبيت حانون محاصرة تماماً. أتحدث عن أهالي، ومنهم: والدي ووالدتي، أخي الأكبر، زوجات أخوتي، أطفالهم، أختي وأطفالها، أهل زوجتي، وعمي وزوجته وأبنائه وأطفالهم، وغيرهم. واقع صعب وقاس جدًا».

من شهود العيان على الأرض، الإعلامي، عبد الهادى عوكل. يقول لـ«الأسبوع»: «لليوم العاشر على التوالي تحاصر القوات الإسرائيلية مناطق محافظة شمال غزة. نتحدث عن حصار مطبق علي المواطنين. القوات والآليات الإسرائيلية، تصوب فوهات أسلحتها لمنطقة دوار أبو شرخ. إذا وصل أي مواطن فلسطيني إلى أماكن محددة يتم إطلاق الرصاص عليه. استشهد عشرات المواطنين الذين حاولوا الخروج. الاحتلال يستهدف كل من يتحرك بالشوارع بالمسيرات. مئات الغارات على شمال القطاع. غربا، حيث مناطق: التوام، بئر النعجة، العامودى، وشمال غرب بيت لاهيا، تتعرض التجمعات السكانية فيها لقصف جوى ومدفعي. يتم وضع متفجرات في بعض المنازل وتفجيرها عن بُعد».

خلال المرحلة الأولى من مخطط التهجير القسري، حاولت الحكومة الإسرائيلية إجبار الآلاف من قاطني القطاع على مغادرة منازلهم ومناطقهم والقطاع نفسه، دون موافقتهم أو رغبتهم، عبر عمليات عسكرية جوية، بحرية، والتوغل البري، رغم ما يمثله التهجير القسري من انتهاكً لحقوق الإنسان (وسيلة حرب، وفقًا لاتفاقية جنيف) قبل أن تجهض مصر المخطط، مؤقتا. يقول، ضياء كحلوت: «في بداية العدوان كان موقف مصر عظيما، وهي تمنع الهجرة. أوقفت المخطط الإسرائيلي المعلن. لم يتحول إلى واقع، بعد أن كانت إسرائيل تخطط لتهجيرهم إلى سيناء، وغيرها، كالأردن، لبنان، وسوريا».

يوضح، ضياء كحلوت، أن «إسرائيل تحاول، حاليا، دفع كل قاطني شمال القطاع ومدينة غزة (تعدداهم يتراوح بين 650 إلى 700 ألف فلسطيني) إلى مواصي خان يونس، ودير البلح. منطقة لا تزيد مساحتها عن 50 كيلو مترا، تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة، فهي أرض رملية، ولا توجد بها أي خدمات. تمهد إسرائيل لمخططها، بتصدير الإحباط واليأس لأهالي شمال غزة. قوات الاحتلال، بدأت في تطبيق الحصار الشامل، شرق مخيم جباليا، وجباليا البلد، لإفراغ المنطقة من سكانها، وضمها إلى ما يسمى بالأراضي الإسرائيلية».

المخطط الإسرائيلي، يركز على منع وصول المساعدات والبضائع لمحافظتي غزة والشمال، مما يهدد بتعرض سكان المناطق المستهدفة لكارثة، قريبا، خاصة مع رفض الاحتلال إدخال الوقود.يعيد، كحلوت، التذكير بأن «مخيم جباليا، انطلقت منه الثورة الفلسطينية وانتفاضة الحجارة عام 1987، وخلال العدوان المستمر منذ عام شهد المخيم بطولات كبيرة ضد القوات الإسرائيلية، التي تحاول، الآن، كسر إرادة المخيم، بالتزامن مع العملية العسكرية البرية، وتكثيف الغارات الجوية وعمليات القصف، خلال الـ10 أيام الأخيرة».

ينبه الإعلامي، عبد الهادى عوكل، خلال حديثه لـ«الأسبوع» إلى أنه في «بداية توغل القوات الإسرائيلية، مؤخرا، تمت عبر المحورين الغربي، والشرقي (شرق مخيم جباليا) ثم تقدمت باتجاه جنوب المخيم (بلوك 1و2و3و4) وصولا إلى منطقة الفالوجا (منطقة بلوك 12) حيث يتواجد جيش الاحتلال عند مقبرة الفالوجا. جنوبا، ولم يتبق سوى شارع الفالوجا، كمحور وحيد لعبور سكان شمال القطاع، وهناك مفترق أبو شرخ، غربا، حيث يكثف الاحتلال نشر آلياته في شارع، البحر، كما تتواجد قواته في منطقة شمال غرب القطاع».

يعطي، عبد الهادي عوكل، صورة أوضح لما يحدث: «خلال ثاني مراحل مخطط التهجير القسري، الجاري، حاليا، لم يعد الخروج سهلا كما كان. الاحتلال أعاد نشر قواته، وأقام سواتر ترابية، فأصبح الخروج مستحيلا، باستثناء ممر باتجاه محافظة غزة وجنوب القطاع، يسيطر عليه جيش الاحتلال بشكل كامل، من خلال ما كان يسمى سابقا، بمقر الإدارة المدنية. يقيمون حاجزًا عسكريًا، مدعوما بكاميرات للتدقيق في هويات الفلسطينيين، الذين سيخرجون من الشمال. الزعم بتوسيع منطقة، مواصي خان يونس، كمنطقة إنسانية، أكذوبة، بعدما تعرضت للقصف، واستشهد فيها مئات الفلسطينيين».

«المناطق المحاصرة، الآن، تبدأ من الشمال الشرقي لمحافظة شمال قطاع غزة: بلدة بيت حانون، وبجوارها غربا منطقة الشيخ زايد، ومنطقة بيت لاهيا، الممتدة حتى آخر نقطة في محافظة الشمال، حيث تلتقي على شاطئ بحر شمال غزة. ومن الجهة الجنوبية منطقة مشروع بيت لاهيا، حيث تتواجد نسبة كبيرة من المواطنين، ومستشفى كمال عدوان، وجنوبا، منطقة الفالوجا، ومنطقة التوام والسلاطين وحى الكرامة، وفي الجنوب الشرقي، مخيم جباليا، الذي يضم تل الزعتر، والمخيم، الأكبر في القطاع، الثاني، فلسطينيا، من حيث المساحة، والسكان (حوالي 150 ألف نسمة) وجنوبا، توجد جباليا البلد، يقابلها، غربا، منطقة التوام، وفي الوسط، الفالوجا. كلها أصبحت في مرمى نيران جيش الاحتلال»، بحسب، عبد الهادي عوكل.

يحاول السياسي الفلسطيني، هلال المصري، تلخيص ما يتم: «عمليات التهجير تستهدف تفكيك المناطق إلى أحياء منفصلة. يتم حصار كل حي بصورة منفصلة. الحديث في الإعلام العبري عن عملية حصار قد تستمر عدة أشهر، سيمنع خلاها الجيش الإسرائيلي إمدادات الطعام والشراب. ليس صحيحا أن الممرات التي تحددها إسرائيل للعبور من الشمال إلى الجنوب، آمنة. هي ممرات للاعتقال أو الموت. تتعدد ممارسات قوات الاحتلال خلال ثاني مراحل التهجير القسري، بداية من القصف المكثف للأحياء المستهدفة، وأماكن الإيواء كالمدارس، ومخيمات النزوح. يريدون تحويل مناطق التهجير إلى مناطق عازلة».

علمت «الأسبوع» أن التقدم البري الإسرائيلي، يركز على قطع طرق الهروب، وخلق ممرات ضيقة، يتم بموجبها تقسيم القطاع إلى مناطق صغيرة ومعزولة، تحد من حركة المدنيين، وتجبرهم على التجمع في نقاط معينة أو محاصرتهم في مناطق مغلقة. تعمل إسرائيل على فرض التهجير القسري وخلق مناطق فارغة، واستخدام الوضع الجديد كذريعة لإعادة رسم الحدود الأمنية، عبر توسيع المناطق العازلة، وزيادة الوجود العسكري على الحدود، وتغيير الخرائط الأمنية بشكل دائم، مع فرض مناطق أمنية، بعد عمليات القصف الجوي والمدفعي، من خلال السيطرة على أحياء سكنية ومناطق كاملة، وإقامة مناطق عازلة حول المناطق المستهدفة، مع منع دخول المدنيين إليها بعد التهجير، بحجة الأمن ومنع تسلل العناصر المسلحة.

خلال حديث، مدير إدارة الإمداد والتجهيز بالدفاع المدني في غزة، د.محمد المغير لـ«الأسبوع» أوضح أن «الأهالي يحاولون البقاء والتواجد، خاصة في منطقة جباليا، لكن قوات الاحتلال تدفعهم إلى النزوح، بهدف تغيير الواقع الديموغرافي (السكاني) في منطقة شمال غزة. تفرض قوات الاحتلال حصارا خانقا على مخيم جباليا وما حوله، عبر منع وصول الامدادات الغذائية، حتى أنها قصفت بالمدفعية، المخبز الوحيد، الذي يعمل بجباليا. تحاول إسرائيل تهجير المواطنين قسرًا، من خلال تكثيف وتسريع عمليات الاستهداف، لخلخلة صمود أهالي الشمال. طواقم الدفاع المدنى انتشلت أكثر من 220 شهيدا، مؤخرا، ولايزال عشرات الشهداء في الطرقات والشوارع، كما في منطقة بئر النعجة. لا نستطيع الوصول إليهم».

ينبه د.المغير، إلى أن «الاحتلال يغلق منطقة الصفطاوي والقصاص ودوار أبو شرخ ومنطقة شرق وغرب جباليا. لدينا أكثر من 550 نداء استجابة، مؤخرا، لكن عمليات الاحتلال تعوق عملنا، في ضوء تقدمها، وغلق بعض المناطق. الممارسات التى يقومون بها كثيرة، للضغط على الأهالي: التهديد، الاعتقال، التعذيب، التنكيل القصف، والقتل. هي حرب شعواء لإخلاء منطقة شمال قطاع غزة من الموطنين، قسرا، ومع ذلك نحاول ممارسة مهامنا في منطقة جباليا. الوضع صعب جدا، على الأرض، لكن لاتزال طواقمنا تعمل في منطقة الفالوجا. تم دمج نقطة اليمن السعيد والفالوجا بشكل مباشر».

توسع قوات الاحتلال، حاليا، دائرة الحصار عبر تدمير البنية التحتية (استهداف محطات الكهرباء، شبكات المياه، والمستشفيات، مما يُعطل الخدمات الأساسية ويجعل الحياة اليومية شبه مستحيلة) مع منع دخول المواد الغذائية والأدوية والمياه، لجباليا وبيت لاهيا، ومواصلة إخلاء ما تبقى من المرافق الطبية والمستشفيات. ورغم أن مساحة القطاع لا تتجاوز الـ360 كيلو مترا مربعا، ويعد الأكثر كثافة سكانية، عالميا (يعيش فيه أكثر من 2 مليون و200 ألف نسمة، حوالي 40% من سكان فلسطين، البالغ عددهم نحو 5.3 مليون نسمة).

تنفذ إسرائيل مخطط المناطق العازلة، التي تمنع (وفق مزاعمها) عمليات التسلل، أو إطلاق القذائف الصاروخية، أو القيام بعمليات ضد قوات الاحتلال، وتعزيز قدرتها في الإنذار المبكر، وترى أن السيطرة على المناطق الاستراتيجية المستهدفة في الشمال سيُضعف من قدرة فصائل المقاومة الفلسطينية على التحرك، ويحد من استخدامها في عمليات ضد إسرائيل، رغم أن المخطط الإسرائيلي، يعني فقدان أصحاب الأرض حقوق الملكية، ويجهض أي مطالبة بالعودة أو التعويض المالي، مع تحميل المسئولية لدول الجوار، والمجتمع الدولي للتعامل مع أزمة اللاجئين.