اخبار مصر
موقع كل يوم -صدى البلد
نشر بتاريخ: ٢٢ تشرين الثاني ٢٠٢٥
بينما تعصف الزوابع بجيرانها، تظل المملكة العربية السعودية مستقرة آمنة كواحة في صحراء السياسة المضطربة، تروي ظمأ الناظرين إلى نموذج عربي يستحق التأمل. إنها أرض كتب لها القدر أن تحتضن تحت رمالها كنز الذهب الأسود منذ أربعينيات القرن الماضي، لكنها رفضت أن تظل سجينة هذه الصدفة الجيولوجية، فاختارت أن تتحول من مجرد وريثة لثروة الطبيعة إلى صانعة لثروة الإنسان والمؤسسات.
لو تأملنا رحلة النفط في العالم العربي، لرأينا مشهداً صارخاً: دول تهاوت تحت وطأة ثرواتها، وأخرى استنزفت في صراعات لم تترك لها سوى حكايات الندم. أما الرياض فكانت مختلفة، فكتبت سرديتها الخاصة التي لا يشبهها شيء. لم تكن هذه قصة نفط يغري بالسهولة والتبذير، بل حكاية نظام اختار أن يحول الثروة إلى مؤسسات راسخة، وأن يجعل من الحوكمة طموحاً، ومن التخطيط مستقبلاً، ومن التحالفات مظلة تحمي التجربة من عواصف السياسة العاتية.
إنها قصة بلد أدرك بحكمة أن البقاء ليس لمن يملك النفط وحده، بل لمن يملك القدرة على صناعته من جديد في صورة اقتصاد وابتكار وثقافة وتأثير. ومثلما تنمو الواحة في قلب الصحراء بصبر الماء وذكاء الجذور، نمت السعودية في محيط إقليمي تثور فيه العواصف من كل اتجاه. لكن المملكة اختارت أن تجعل من هذه البيئة القاسية مختبراً لبناء نموذج جديد؛ نموذج يعيد تعريف معنى الدولة، والتنمية، والدور الإقليمي.
هنا تبدأ الحكاية الحقيقية: حكاية دولة تصنع مستقبلها بوعي لا ينهكه الزمن، محاولة لفهم تلك 'الصيغة' الساحرة التي جعلت الرياض تعيد ترتيب المعادلة العربية من جديد. كيف تتحول الأرض من مورد يتبدد إلى وعد يتجدد؟ وكيف ينتقل بلد من قوة نفطية إلى قوة فعل وتأثير وطموح بلا حدود؟
لنتخيل معاً لعبة بسيطة: تملك احتياطيات نفطية هائلة، تماماً كما يملك جيرانك في 'أوبك'. الجميع يمتلك بطاقة الدخول إلى حفلة الثراء النفطي. لكن بعد عقود، تتباعد المصائر بشكل صادم: دول تتعثر، وأخرى تنهار، فيما تشق السعودية طريقاً مختلفاً تماماً.
السر لم يكن في النفط نفسه، بل في طريقة إدارة ما فوق الأرض. إنها معادلة يمكن تسميتها بـ'صيغة الرياض': (النفط + الحوكمة) × التحالف الاستراتيجي = الثروة والتأثير العالمي. هذه المعادلة هي ما جعل السعودية استثناءً عربياً بارزاً. النفط منح الجميع 'فيزا' للعالم الاقتصادي الكبير، لكن كثيراً من الدول أضاعتها في بنى فاسدة أو صراعات عبثية. فالنفط بلا حوكمة يشبه أن تمنح طفلاً مفاتيح سيارة رياضية: القوة موجودة، لكن النهاية المحتومة معروفة مسبقاً.
اختارت السعودية طريقاً مختلفاً: ليس كيف ننفق الثروة؟ بل كيف نحافظ عليها ونحولها؟ كانت تبني صناديق سيادية تعمل بعقلية 'وول ستريت'، وتحول عوائد النفط إلى أصول عالمية منتجة، لا إلى نفقات عاجلة. السؤال الاستراتيجي السعودي كان ولا يزال: كيف نبني دولة تستمر عندما يتوقف الضخ؟
الرؤية والمستقبل
'رؤية 2030' لم تكن وثيقة اقتصادية فحسب، بل عقداً اجتماعياً جديداً. هي رسالة جريئة إلى جيل الشباب: الثروة القادمة لن تأتي من تحت الأرض... بل من العقل والمهارة وريادة الأعمال. مشروعات مثل 'نيوم' و'القدية' ليست ديكورات أو لافتات إعلامية، هي محاولات جادة لإعادة هندسة اقتصاد كامل، وبناء جغرافيا جديدة للطموح الوطني.
ثم هناك خارطة التحالفات المدروسة.. فحتى أكثر الخطط نضجاً تحتاج مظلة تحميها من العواصف. وهنا تظهر الطبقة الثانية من صيغة الرياض كما أفهمها؛ القرار السيادي والتحالف الاستراتيجي.
نحن نحيا في محيط إقليمي وعالمي مضطرب، حيث شهد العالم كيف هوت دول نفطية كالعراق وليبيا وفنزويلا؛ ليس بسبب نقص الموارد، بل بسبب غياب الغطاء الجيوسياسي والاستقرار.
السعودية، على العكس، أدارت سياستها الخارجية بعقلية 'صندوق التحوط': مزيج من الحزم والانفتاح، ونسج علاقات مع الصين وروسيا، مع الحفاظ على التحالف المركزي مع واشنطن الذي شكل لعقود 'بوليصة التأمين' الحقيقية لاستقرار المشروع السعودي الداخلي.
القبضة الرشيقة
لم تعد المملكة اللاعب المتحفظ الذي يكتفي بحراسة التوازنات. لقد تحولت إلى محرك رئيسي يقبض بيد قوية على خيوط اللعبة الإقليمية. انتقلت من احتواء التهديدات إلى دمجها في معادلات جديدة؛ كما في التقارب الحذر مع إيران. كما تحولت مشاريع 'رؤية 2030' نفسها إلى أدوات دبلوماسية: اقتصاد متنوع، سوق سياحية صاعدة، ومركز مالي وثقافي يخلق شبكات تأثير عابرة للحدود.
هذا الانتقال يرسخ السعودية كقوة وسيطة صاعدة، لا مجرد دولة نفطية. النجاح في الماضي كان إدارة مثالية لرأس المال. لكن النجاح الحالي والقادم يعتمد على قدرة المملكة على التحول إلى دولة مؤسسات، وهي عملية دقيقة تشبه السير على حبل مشدود: من الولاء إلى الكفاءة دون صدمات اجتماعية، ومن ضمان الوظيفة إلى ضمان الفرصة دون اهتزاز العقد الاجتماعي، ومن حماية أميركية إلى توازن مع قوى كبرى في عالم مضطرب.
تلك منظومة من الصعب إدارتها بسهولة؛ إلا إذا كان وراءها تخطيط سليم لعقول لامعة تدرك كيف ومتى وأين يكون الفعل السياسي المؤثر. هكذا يحدث الانتقال والتغير والتطور للسعودية ولدورها التاريخي في ظرف سياسي دولي يتسم بالهشاشة والسيولة؛ لينتقل الدور التاريخي لها من 'حارس الحرمين' إلى قائد تجربة عربية جديدة.
الفن ذراع ثالثة للقوة
لو كانت الثروة وحدها تكفي، لكانت طرابلس تشبه سنغافورة، وكاراكاس أشبه بدبي.
لكن العالم يثبت دائماً أن الموارد تصنع البذرة... بينما النظم تصنع الغابة. السعودية امتلكت البذرة، لكن 'صيغة الرياض' كانت الماء والضوء والانضباط الذي جعلها تنمو. السؤال الآن: هل ستتحول الواحة إلى غابة عربية قادرة على المنافسة عالمياً؟
هنا تبرز إجابة السؤال من خلال ما نراه على أرض الواقع يتحقق اليوم في الرياض. إنه الفن؛ لغة النفوذ الجديدة. في السنوات الأخيرة، أضافت السعودية عنصراً ثالثاً لصيغتها المتفردة: القوة الناعمة. لم تعد التأثيرات الاقتصادية والسياسية وحدها هي أدوات النفوذ، بل أصبح الفن والثقافة جزءاً من بناء صورة جديدة للمنطقة.
وهنا يظهر مثال لافت في مصر: عودة الحياة إلى مسرح سيد درويش بالهرم . هذا المسرح، الذي ظل سنوات طويلة حبيس الظلال، يعود اليوم إلى الأضواء بهدوء يشبه نسيم ليالي القاهرة الخريفية. كذاكرة عربية مشتركة تستيقظ. ما يميز المشهد أن عودة الروح للمسرح تأتي بشراكة ثقافية عربية، لعبت فيها المؤسسات السعودية، ومنها هيئة الترفيه ومجموعة MBC دوراً حقيقياً. إنه نموذج للتحول من التحالفات السياسية إلى الروابط الثقافية التي تعمق القرب بين الشعوب.
إحياء مسرح سيد درويش هو إعلان عن مرحلة جديدة في العلاقات العربية. مرحلة تقول إن المستقبل يصنعه الفن كما تصنعه السياسة، وإن الجسور بين مصر والسعودية لا تبنى بالبيانات الرسمية فحسب، بل أيضاً عبر منصات الإبداع. هكذا تتوسع 'صيغة الرياض' لتشمل: (تنمية الداخل - تحالفات الاستقرار – قوة ناعمة عابرة للحدود)؛ هذا هو الوجه الجديد للتأثير العربي، حيث تصبح الثقافة شريكاً في صناعة المستقبل.
قصة السعودية ليست قصة نفط، ولا مجرد سردية عابرة حول رؤية اقتصادية. إنها قصة معادلة ذكية جمعت بين الحوكمة والانفتاح والتحالف والكفاءة والثقافة. المملكة اليوم تقف على أعتاب فصل جديد: هل تتحول من واحة مستقرة إلى غابة مزدهرة في صحراء السياسة والاقتصاد الدولية؟ الإجابة تتشكل الآن: في الاقتصاد، وفي القرار السياسي، وفي الفنون أيضاً.
هكذا نرى كيف تتكامل خيوط الحكاية التي نسجتها 'صيغة الرياض'؛ حكاية لم تكتب بحبر النفط، بل بحبر الإرادة والتخطيط والقدرة على تحويل اللحظة إلى مستقبل. من إدارة الثروة إلى بناء الرؤية، ومن التحالفات المتينة إلى القوة الناعمة التي تعبر الحدود بلا جواز، تبدو السعودية اليوم وكأنها تعيد تعريف مفهوم الدولة في المنطقة: دولة لا تكتفي بأن تحرس ما ورثته، بل تسعى لأن تبتكر ما يليق بزمنها وتحدياته.
ما يحدث في المملكة ليس مجرد تحديث اقتصادي، ولا مجرد صعود سياسي؛ إنه تحول في الوعي، في طريقة النظر إلى الذات، وفي فهم الدور الممكن. فالمملكة التي نجحت في تثبيت جذورها وسط عواصف المنطقة، تمد الآن فروعها نحو فضاءات جديدة: فضاءات المعرفة، والاستثمار، والفن، والتأثير الثقافي الذي يشكل وجدان الشعوب قبل أن يشكل أسواقها.
وبين سطور التجربة السعودية، يلوح درس مركزي: الثروة ليست ما تمنحه الأرض، بل ما تصنعه العقول. والنفوذ ليس ما تفرضه القوة، بل ما تلهمه القدوة. من الواحة التي صانت نفسها إلى الغابة التي تطمح للامتداد، تمضي الرياض على طريق طويل من البناء المتدرج والمتماسك.
هكذا تنتهي الحكاية أو قل تبدأ من حيث انتهى الماضي: ليست قصة نفط، بل قصة أمة تصنع مستقبلها بوعيها وعبقريتها، لا بصدفة مواردها.


































