اخبار مصر
موقع كل يوم -الرئيس نيوز
نشر بتاريخ: ١٩ تشرين الأول ٢٠٢٥
في خضم التصعيد التجاري بين واشنطن وبكين، لم تعد المنافسة تدور حول الرسوم الجمركية أو فائض الميزان التجاري فحسب، بل امتدت إلى جوهر التكنولوجيا نفسها: المعادن النادرة والرقائق الدقيقة التي تمثل شريان الحياة للصناعات الحديثة، من الطائرات والهواتف إلى السيارات الكهربائية وأجهزة الذكاء الاصطناعي.
وتشير بيانات الجمارك الصينية إلى تراجع قياسي في صادرات المغنطات المكوّنة من معادن نادرة بنسبة ٧٤٪ خلال مايو الماضي مقارنة بالعام السابق، في خطوة وصفتها الصحيفة بأنها «أوضح إشارة إلى استعداد بكين لاستخدام سيطرتها على هذه المواد كأداة نفوذ في الحرب الاقتصادية». فالصين تمتلك أكثر من ٨٠٪ من سلاسل إنتاج وتكرير العناصر الأرضية النادرة، وهي بذلك تمسك بزمام قطاعٍ لا يمكن لأي دولة صناعية الاستغناء عنه.
وفي المقابل، تضخ الولايات المتحدة مليارات الدولارات في مبادرة برلمانية تضمنت قانون الرقائق والعلوم (CHIPS and Science Act) لإحياء صناعة أشباه الموصلات على أراضيها وتقليل اعتمادها على آسيا، في محاولة لاستعادة زمام القيادة في تكنولوجيا المستقبل. غير أن الصين تتحرك في الاتجاه المعاكس عبر فرض قيود تصدير جديدة على الجاليوم والغرافيت المستخدمين في إنتاج الرقائق والبطاريات، مما يرفع كلفة التصنيع العالمية ويزيد هشاشة سلاسل التوريد.
ويصف الخبراء هذا المشهد بأنه «تحولٌ استراتيجي في موازين القوة الاقتصادية العالمية، حيث لم تعد الصراعات تُقاس بعدد السفن أو الطائرات، بل بمن يملك الذرة المعدنية التي تُشغّل التقنية».
ومن قلب هذه المعادلة يتضح أن السيطرة على الذرة الصغيرة من السيليكون أو العنصر النادر من الأرض لم تعد مجرد مسألة تجارية، بل أداة سيادية تحدد من يكتب مستقبل الابتكار العالمي، وفقًا لصحيفة وول ستريت جورنال.
وتشير تقارير بلومبرج إلى أن الصين تنتج ما يقرب من ٦٠٪ من المعادن النادرة عالميًا وتتحكم في نحو ٨٥٪ من عمليات التكرير، مما يجعلها حلقة لا غنى عنها في سلاسل الإمداد التكنولوجية.
وتشمل هذه المعادن عناصر مثل النيوديميوم والتربيوم والديسبروسيوم، الضرورية لتصنيع المحركات الكهربائية وتوربينات الرياح وأنظمة التوجيه العسكري.
ومع ازدياد الطلب على الطاقة النظيفة والذكاء الصناعي، أصبح نفوذ بكين في هذا القطاع أشبه بـ'سلاح صامت' تتحكم به في نبض الصناعات الغربية.
أما الرقائق الإلكترونية، فهي العمود الفقري لعصر البيانات. ومع توسع تطبيقات الذكاء الصناعي، وحروب الفضاء الإلكتروني، وتطور الأسلحة الذكية، بات إنتاج الرقائق المتقدمة مسألة سيادة وطنية.
الولايات المتحدة، التي كانت لعقود رائدة في هذا المجال، وجدت نفسها أمام واقع جديد: تايوان وكوريا الجنوبية تهيمنان على صناعة الرقائق المتطورة، والصين تستثمر مئات المليارات للحاق بهما.
وردت واشنطن بقوة عبر 'قانون الرقائق والعلوم' الذي أقره الكونجرس في ٢٠٢٢، وخصص أكثر من ٥٢ مليار دولار لدعم التصنيع المحلي. كما أطلقت مبادرة 'تحالف الرقائق' مع اليابان وكوريا الجنوبية والهند وتايوان، في محاولة لإقامة شبكة توريد حليفة خارج النفوذ الصيني.
وأشارت وول ستريت جورنال إلى أن هذه الجهود تأتي ضمن استراتيجية أشمل تهدف إلى “فك الارتباط التكنولوجي” مع بكين وإعادة بناء سلاسل الإمداد داخل الكتلة الغربية.
لكن الرد الصيني جاء حاسمًا. فوفقا لرويترز، فرضت بكين في منتصف ٢٠٢٥ قيودًا على تصدير معادن حساسة مثل الجاليوم والجيرمانيوم، وهما عنصران يستخدمان في تصنيع أشباه الموصلات والليزر والأجهزة البصرية.
القرار أثار ارتباكًا عالميًا ورفع الأسعار بنسبة ٤٠٪ خلال أسابيع، مما أعاد للأذهان حرب النفط في السبعينيات، لكن بنكهة تكنولوجية جديدة.
وكانت صحيفة فاينانشال تايمز قد حذّرت من أن هذه الإجراءات قد تكون بداية 'حرب موارد صامتة' بين القوتين، مشيرة إلى أن الصين قد تلجأ مستقبلًا إلى توسيع القائمة لتشمل عناصر أخرى مثل الإيتريوم واللانثانوم والبرسيوديميوم، وهو ما سيهدد قطاعات الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية على مستوى العالم.
في المقابل، تعمل واشنطن على تحفيز التنقيب والإنتاج المحلي. فقد أعلنت وزارة الطاقة الأمريكية، بالتعاون مع شركات خاصة، عن خطط لاستثمار أكثر من ٢ مليار دولار في تطوير مناجم للمعادن النادرة داخل ولايات نيفادا ووايومنغ وألاسكا. إلا أن الخبراء في بلومبرج إنرجي يرون أن إعادة بناء سلاسل الإمداد قد تستغرق من ٥ إلى ٧ سنوات على الأقل، في ظل تعقيدات بيئية وتشريعية تجعل التكرير المحلي أكثر كلفة وتعقيدًا من نظيره الصيني.
ويتجاوز تأثير هذه الحرب الجديدة الحدود الصناعية إلى رسائل معبرة وملغمة بمضمون السياسات الاقتصادية الكبرى. ففي أوروبا، واجهت شركات السيارات مثل 'فولكسفاجن' و'بي إم دبليو' اضطرابات في إمدادات البطاريات، بينما اضطرت اليابان إلى إطلاق صندوق حكومي بقيمة ١٠ مليارات دولار لتأمين المعادن الحيوية.
أما كوريا الجنوبية، فقد عززت شراكاتها مع أستراليا وكندا لضمان بدائل مستقرة، في حين تسعى الهند إلى أن تصبح مركزًا جديدًا لتكرير المعادن النادرة بتمويل مشترك مع الولايات المتحدة.
أما التداعيات الاقتصادية، فلا تقل أهمية عن السياسية. وأشار تقرير بلومبرج إيكونوميكس إلى أن استمرار القيود الصينية قد يرفع أسعار الإلكترونيات العالمية بنسبة تصل إلى ٨٪ خلال ٢٠٢٦، فيما يتوقع صندوق النقد الدولي أن يؤثر التصعيد على نمو التجارة العالمية بمقدار نصف نقطة مئوية سنويًا.
لكن وسط التصعيد، بدأت بعض الإشارات الإيجابية تلوح في الأفق. فقد كشفت فاينانشال تايمز عن مفاوضات تقنية هادئة بين مسؤولين من وزارتي التجارة الأمريكية والصينية لتأسيس 'آلية تسوية' لتبادل المعلومات حول قيود التصدير، بهدف منع صدمات مفاجئة في الأسواق.
ورغم ذلك، لا يرى المراقبون أن هذه المحادثات كافية لتبريد التوتر، إذ تبقى حسابات الأمن القومي والسيطرة الصناعية هي المحرك الأساسي للطرفين.
وفي بكين، تُقدم القيادة الصينية هذا الصراع باعتباره معركة 'تحرر تكنولوجي' من الهيمنة الغربية، وتستثمر بكثافة في دعم شركات مثل 'SMIC' و'Yangtze Memory' لتطوير رقائق وطنية بديلة.
أما في واشنطن، فيُنظر إلى الصراع باعتباره معركة وجودية لحماية التفوق الأمريكي ومنع تسرب التكنولوجيا إلى خصم استراتيجي.
ومع كل جولة جديدة من القيود والعقوبات، تتضح حقيقة أن العالم بات عالقًا في دوامة من الاعتماد المتبادل يصعب فكها. فالشركات الأمريكية ما زالت تعتمد على المواد الصينية في أكثر من ٧٠٪ من مكونات البطاريات، فيما تحتاج المصانع الصينية إلى معدات أمريكية متقدمة لإنتاج الرقائق الدقيقة. هذا التشابك يجعل الانفصال الكامل بين الاقتصادين أشبه بمحاولة فصل الدم عن الشرايين.
ويبدو أن الحرب على المعادن النادرة والرقائق ليست مجرد نزاع تجاري، بل فصل جديد من سباق الهيمنة على مستقبل الاقتصاد العالمي. ومع أن واشنطن وبكين تدركان أن التصعيد يضر بهما معًا، إلا أن كليهما يعتقد أن التراجع الآن يعني خسارة الغد.
وبين هذا وذاك، يقف العالم الصناعي مترقبًا — من ديترويت إلى طوكيو — وهو يدرك أن شرارة واحدة في منجم نادر أو مصنع رقائق قد تعيد رسم خريطة القوة في القرن الحادي والعشرين.