اخبار اليمن
موقع كل يوم -سبأ نت
نشر بتاريخ: ١٥ حزيران ٢٠٢٥
صنعاء - سبأ:
نص كلمة قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، بمناسبة يوم الولاية 18 ذو الحجة 1446هـ 14 يونيو 2025م:
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
بمناسبة عيد الغدير الأغر، يوم الولاية المبارك، أتوجَّه إلى شعبنا اليمني المسلم العزيز، وإلى كل المؤمنين والمؤمنات، الذين يحتفلون بهذه المناسبة، في كل البلدان التي تحتفل بها، بأطيب التهاني والتبريك، ونسأل الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى' أن يتقبَّل مِنَّا ومنهم كل الأعمال المشروعة لإحياء هذه المناسبة.
شعبنا اليمني العزيز هو يحتفل بهذه المناسبة كل عام، وهذا من ضمن إرثه الإيماني الذي ورثه عبر الأجيال، واستمر عليه قرناً بعد قرن، على مدى الزمان الماضي وإلى اليوم، والاحتفــال بهــذه المناسبـــة هـو:
- أولاً: من الفرح بنعمة الله تعالى وفضله، كما قال 'جَلَّ شَأنُهُ': {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس:58]، وهذا- إحياء هذا اليوم والاحتفال به- هو من اظهار الفرح بنعمة الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى' وبفضله.
- ويصاحبه أمورٌ مهمةٌ جدًّا، في مقدمتها: الشهادة لله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى' بكمال دينه، وأنه ليس ديناً ناقصاً، والشهادة لرسول الله 'صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ' بأنه بلَّغ ما أمره الله بتبليغه، في الآية المباركة التي سيأتي الحديث عنها: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}[المائدة:67].
- وهو أيضاً عملية توثيقية في غاية الأهمية، لذلك البلاغ التاريخي العظيم، تتناقله الأجيال من جيلٍ إلى جيل؛ لأهميته الكبيرة جدًّا.
- وهو- في نفس الوقت- ترسيخٌ للمبدأ الإسلامي العظيم، في ولاية الله تعالى على عباده، في مختلف شؤون حياتهم، وفي التولِّي لله، وامتداد هذا التولِّي وفق الآيات القرآنية المباركة، وما يترتب على ذلك من نتائج مهمة، ومن ضمنها: التحصين للأُمَّة (للمسلمين) من الولاية والولاء لليهود وأوليائهم من النصارى، والأمة في هذه المرحلة أحوج ما تكون إلى ذلك.
والبدايــــة هي: في الحديث عن مضمون هذه المناسبة، وعن محتوى البلاغ التاريخي العظيم، الذي بلغه الرسول 'صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ' في يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة، من السنة العاشرة للهجرة.
الرسول 'صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ'، وفي السنة العاشرة للهجرة، عندما اقترب موسم الحج، عَمِلَ نفيراً واسعاً، واستنهاضاً كبيراً للمسلمين، للمشاركة في أداء فريضة الحج في ذلك العام، وبشكلٍ ملفت، واهتمامٍ استثنائي غير مسبوق، فقد كان يرسل رسله إلى القبائل العربية، إلى المسلمين في مختلف المجتمعات، يدعوهم إلى المشاركة في الحج في تلك السنة، في ذلك العام، ويحثُّهم على ذلك، ويستنفرهم لذلك، وفعلاً كانت النتيجة: أن ذلك الحج، في ذلك العام، لربما كان من حيث كثرة الحجاج وتوافدهم غير مسبوق ما قبله في تاريخ الجزيرة العربية، يعني: لم يسبق أن حج العرب إلى بيت الله الحرام بتلك الأعداد الكبيرة، والجموع الغفيرة، في السنوات الماضية ما قبل ذلك، سواءً ما قبل الإسلام في العصر الجاهلي، أو ما قبل ذلك أيضاً، في الامتداد الذي كان امتداداً لنبي الله إسماعيل 'عَلَيْهِ السَّلَامُ'، ونبي الله إبراهيم، ومِلَّة نبي الله إبراهيم 'عَلَيْهِ السَّلَامُ'، أو حتى في المرحلة الإسلامية، كان ما قبل ذلك هو الحج الإسلامي في السنة التاسعة للهجرة، لم يكن الحضور فيه بذلك الشكل، ولم يحضر فيه النبي 'صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ'.
فعملية الاستنفار الواسع، والتحشيد الكبير، للمشاركة في أداء الحج في ذلك الموسم نجحت بشكلٍ كبير، وكان الحضور بعشرات الآلاف، وبأكثر من مائة ألف حاج، وكانت هذه الأعداد، مقارنةً بالتعداد السكاني لذلك العصر، نسبةً مهمة، يعني: على مستوى الجزيرة العربية لربما قد تكون خمس السكان، أو قريباً من ذلك، يعني: نسبة ضخمة جدًّا من الحجاج مقارنةً بعدد الناس آنذاك في ذلك الزمن.
رسول الله 'صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ' حج في تلك السنة بنفسه، وحشد الناس للحج بأقصى ما أمكن، وسُمِّي ذلك العام، وسُمِّي حج النبي 'صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ' في ذلك العام بحجة الوداع، وهذا الاسم له مدلوله، لماذا؟ لأن النبي 'صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ' ودَّع أمته في ذلك الحج، ودَّعها وأشعرها بقرب رحيله من هذه الدنيا الفانية إلى عالم الآخرة، وهذا شيءٌ محزنٌ وكبير، يعني: حدث كبير بالنسبة للأُمَّة، له التزاماته، وما يترتب عليه أيضاً من مخاطر، ومن التزامات مهمة جدًّا في واقع الأُمَّة، بما يضمن لها الاستمرار على نهج الإسلام والاتِّباع لرسول الله 'صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ'، المسألة كبيرة جدًّا بالنسبة للأُمَّة، وفعلاً كبيرة، وكان لها تداعياتها، وآثارها... إلى غير ذلك.
في حَجَّة الوداع هو ودَّعهم، قال لهم: ((وَلَعَلِّي لَا أَلْقَاكُم بَعْدَ عَامِي هَذَا))، وعبارات أخرى، من ضمنها: ((يُوشِكُ أَنْ أُدعَى فَأُجِيب))، ((يُوشِكُ أَنْ يَأتِيَنِي رَسُوْلُ رَبِّي فَأُجِيب))، عبارات وجُمَل في مقامات متعدِّدة، كلها أشعرت هذه الأُمَّة بأنه على مقربةٍ من فراقها، من الوداع لها من المغادرة لهذه الدنيا الفانية.
الــوداع، لم يكن هكذا مجرَّد وداع عاطفي، يقول لهم: [أنا أوادعكم، أنا ذاهبٌ عنكم]، وانتهى الأمر، الرسول 'صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ' في مهمته ومسؤوليته الرسالية (تبليغ رسالة الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى') هو يُقَدِّم للأُمَّة ما يرتبط بمستقبلها ومصيرها، فيما يمثِّل ضمانةً لها إذا تمسَّكت به بالاستقامة التَّامَّة على رسالة الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'؛ ولـذلك كان لكل ما يقدِّمه من التعليمات، ومن الحقائق، ومن الهدى، في حجة الوداع، وما بعدها، وما يرتبط بها، أهمية كبرى للأُمَّة فيما يتعلَّق بحاضرها آنذاك، وبمستقبلها، وبمستقبلها، فكانت المسألة مهمة.
يعني: هو عندما كان يخبرهم أنه على وشك الرحيل من هذه الحياة، يخبرهم في سياق ما يقدِّمه لهم من تعليمات ذات أهمية كبيرة جدًّا لهم في مستقبلهم، وفي ضمان استمراريتهم على منهج الله الحق ورسالة الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'؛ ولـذلك كانت هذه المسألة مهمة، فهو يوصيهم، ولكنَّها وصية الرسول 'صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ'، في تقديم أهم التعليمات، التي تتضمن أهم الضمانات للاستقامة لمسيرة الأُمَّة على أساس منهج الله الحق، وهديه القويم في صراطه المستقيم، وهذه مسألة في غاية الأهمية.
رسول الله 'صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ' أقام الحج، وعلَّم الأُمَّة بنفسه أيضاً مناسك الحج بالتفصيل، وقدَّم التعليمات المهمة جدًّا في خطبة يوم عرفة، وهي خطبة شهيرة جدًّا، وكان من ضمن ما ورد فيها: (حديث الثقلين)، وغير ذلك من التعليمات المهمة: في تحريم حرمة دماء المسلمين على بعضهم البعض، وكذلك ما يتعلَّق بحرمة أعراضهم، وأموالهم، وممتلكاتهم، والحث على وحدتهم، وتعاونهم، واستقامتهم على منهج الله الحق... وغير ذلك.
بعد اكتمال الحج، والعودة من مكَّة، وصل رسول الله 'صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ' ومعه الحجيج، وهم عائدون من مكَّة، إلى (الجحفة)، وهي منطقة ما بين مكَّة والمدينة، وهي إلى مكَّة أقرب، في هذه البقعة (الجحفة) غدير يُدعى بـ(غدير خُم) في الوادي نفسه (وادي خم)، والوادي في نفس المنطقة، في هذه المنطقة، وما قبل افتراق الحجاج؛ لأن من بعدها سيتفرق الحُجَّاج في وُجُهاتهم إلى بلدانهم، فما قبل هذا الافتراق نزل على رسول الله 'صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ' قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة:67].
هذه الآية المباركة من المُتَّفَق على أنها من الآيات الأخيرة في القرآن الكريم، من آخر الآيات نزولاً، ومع ذلك تتضمَّن هذا المنطق العجيب، وهذا التأكيد الكبير، الذي يُبَيِّن لنا نحن- نحن المسلمون- يُبَيِّن لنا أهمية محتوى ذلك البلاغ، أنه بلاغٌ في غاية الأهمية، مع أن الرسول 'صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ' عندما نزلت عليه هذه الآية المباركة، قد بلَّغ مبادئ الإسلام الكبرى، وفي مقدِّمتها: التوحيد لله، وحارب الشرك، وعمل على إنهائه في الجزيرة العربية بشكلٍ كامل، وفي نفس الوقت بلَّغ بقية مبادئ الإسلام وشرائعه، وأركان الإسلام، كذلك ما يتعلَّق بالمواقف، المواقف الواضحة والصريحة من كل فئات الطغيان، والكفر، والشر، والضلال، والباطل، سواءً في مواجهته مع مشركي العرب، أو مع اليهود، أو مع النصارى، كل هذا قد بلَّغه كمواقف، أو تشريعات إلهية (شرائع، وفرائض)، أو مبادئ وأسس ومعتقدات، فهو في المرحلة الأخيرة من حياته، ما قبل وفاته بأقل من ثلاثة أشهر، إذاً يبقى هناك موضوعه في غاية الأهمية، وأهميته مرتبطةٌ بماذا؟ بكمال الدين، بقيام أمر الإسلام، واستقامة أمر الإسلام، وتمام هذا الدين؛ ولهـذا عبَّر عن هذه المسألة بِدِقَّة في قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}[المائدة:67]، مما يوضِّح أن النقص المتعلِّق بهذه المسألة، لو لم يبلِّغ بها النبي 'صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ'، ليس نقصاً عادياً، ولا هامشياً، بل هو نقص يمتد كل أثره على محتوى الرسالة الإلهية، في فاعليتها، في دورها، في حضورها، في استقامة واقع الأُمَّة عليها، فهو نقصٌ خطيرٌ جدًّا، لو لم يتم الإبلاغ بهذا البلاغ العظيم؛ لكان ذلك نقصاً وثلماً كبيراً في هذا الدين، كذلك على مستوى الالتزام والاهتمام بمضمون هذا البلاغ في إقامة الدين، استقامة أمر الأُمَّة على أساسه، كل هذا يوضِّحه قول الله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}[المائدة:67].
أمَّا قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة:67]، وهي ضمانة قُدِّمت للنبي 'صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ' في العصمة، يعني: دفع شر الناس عنه، وتمكينه من أداء هذا البلاغ بنجاح، والمسألة هذه مسألة عجيبة؛ لأنه سَيُبَلِّغ هذا البلاغ في وسطٍ إسلامي، لم يبقَ للشرك أي حضور في الساحة العربية آنذاك، وفي الجزيرة العربية آنذاك، الجموع التي سينادي فيها بهذا البلاغ، ويبلِّغها بهذا البلاغ، وهي عشرات الآلاف من الناس، جموعٌ من المسلمين الذين دخلوا في الإسلام، وهم أيضاً سيقومون بنقل هذا البلاغ إلى بلدانهم، ومجتمعاتهم، وقبائلهم، التي قد دخلت في الإسلام، في دين الله أفواجاً؛ ولكن يتَّضح أن هذه المسألة هي مسألة ذات حساسية كبيرة، محتوى البلاغ الذي سيبلِّغه ذات حساسية كبيرة لدى الناس بكل فئاتهم؛ لأن التعبير هنا جاء عاماً: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة:67]، لم يقل- مثلاً- فقط: [والله يعصمك من الكافرين، أو يعصمك من فئات معيَّنة]، (مِنَ النَّاسِ) بكل فئاتهم.
كذلك الختام لهذه الآية المباركة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة:67]، يُبَيِّن أيضاً أن الموقف من محتوى هذا البلاغ، حينما يكون موقف الجحود، أو موقف الرفض العملي، هو خطيرٌ جدًّا؛ لأنه ليس موقفاً من مسألة عادية، هامشية، بسيطة، ليست ذات أهمية، تعتبر من المسائل التي يمكن التغاضي عنها واللامبالاة بها؛ بل هو موقفٌ سيءٌ جدًّا تجاه قضية ذات أهمية، وازنة، كبيرة، عظيمة، مهمة في دين الله وفي رسالة الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'؛ ولهـذا أتى الحديث بهذه الصيغة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة:67]، في التشديد على قبح وسوء أي موقف سلبي جاحد، أو رافض، لمحتوى هذا البلاغ العظيم، كما في قوله تعالى في قصة الحج: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:97].
الموقف المتمثل إمَّا بالجحود، أو الرفض العملي، لأمر من أمور الدين الإسلامي المهمة، العظيمة، الكبيرة، ركن من أركان الإسلام، أو مبدأ مهم وعظيم من مبادئ الإسلام، لا يعتبر حينما يكون موقفاً سلبياً سيئاً: إمَّا جاحداً، وإمَّا رافضاً على مستوى العمل؛ لا يعتبر موقفاً هيناً عند الله، وموقفاً عادياً عند الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'، بل يعتبر موقفاً خطيراً؛ ولهـذا يأتي التصنيف عند الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى' لخطورة هذا الموقف بهذه التسمية: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:97]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة:67]... وغير ذلك؛ لأن بعض الأمور- فعلاً- الجحود بها، أو الرفض العملي لها، يمثِّل إساءة كبيرة إلى الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'، ودلالةً على اختلال إيماني لدى الإنسان، اختلال في إيمانه بالله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'، وفي جوهر هذا الدين الإلهي، وهو: التسليم لله، والقبول بأمر الله، بتوجيهات الله، بتعليمات الله، بما قرَّره الله، بما فرضه الله، بما شرعه الله، وهي الحالة الخطيرة بالنسبة للإنسان، إذا كان في اتِّجاه مباين لها، حالة انحراف خطير على الإنسان.
هذا كله يبيِّن أهمية المسألة؛ ولـذلك الرسول 'صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ' حينما أتاه هذا الأمر العظيم، بالبلاغ بأمر له هذه الأهمية الكبيرة، الواضحة، والحساسة في نفس الوقت، في غاية الحساسية عند الناس، وهي- فعلاً- قضية لا يوجد مسألة أكثر حساسية منها عند الناس كمجتمعات واتِّجاهات، غير الحسابات الشخصية لدى كل إنسان لوحده، كمستوى عام يعني لدى الناس، وهذا سيتَّضح.
رسول الله 'صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ' اتَّجه لتنفيذ أمر الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'، وهو الذي له مرتبة عالية جدًّا بين رسل الله وأنبيائه، في أدائه الرسالي، في تبليغه لرسالات الله، في قيامه بمهامه ومسؤولياته الرسالية: في تبليغ رسالة الله، في إقامة دين الله، في العمل على هداية عباد الله، في إيصال هدى الله إلى الناس؛ على أرقى مستوى، له موقع متميِّز بين كل الرسل والأنبياء، هو متقدِّم، وهو راقٍ في مستوى هذا الأداء العظيم؛ ولـذلك هو كان يعرف أهمية كل مسألة، ويعطيها ما تستحقه من الأهمية:
- في كيفية إيصالها إلى الناس.
- في طريقته في التبليغ.
- في أسلوبه.
- وفي بيانه؛ لأن من ضمن مسؤولياته المهمة: البلاغ المبين، هذه من مسؤولياته: أن يُبَلِّغ بلاغاً مبيناً، يعني: واضحاً، لا لُبس فيه.
ولـذلك اتَّجه رسول الله 'صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ' إلى تنفيذ أمر الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'، والإبلاغ بهذا البلاغ العظيم، الوقت آنذاك- حين نزول هذه الآية المباركة على رسول الله 'صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ'- كان وقت الظهيرة، في حرارة الشمس الشديدة، في أشد حرارة الشمس، والمنطقة بنفسها حارَّة (منطقة الجُحْفَة)، الموضع الذي هو فيه حار جدًّا ونزل فيه.
فرسول الله 'صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ' اتَّجه لتنفيذ أمر الله، وتبليغ ما أمره الله بتبليغه، بطريقةٍ تُشعِرُ كذلك بأهمية ما يريد أن يُبَلِّغه للناس، وتدل على ذلك دلالةً واضحة، فهو أعلن عن اجتماعٍ طارئٍ وعام، مطلوب من كل الحجيج أن يحضروا في ذلك الاجتماع الطارئ، والنداء لتلك الاجتماعات الطارئة، التي هي في غاية الأهمية، كان يُنادى لها بنداء (الصلاة جامعة)، فنودي بهذا النداء العظيم للاجتماع الطارئ، وأمر أن يتم إعادة من قد تقدَّموا من الحجيج ليعودوا إلى حيث هو، والانتظار للمتأخرين ليصلوا؛ حتى اجتمع كل الحجيج الذين كانوا ذاهبين من الحج، فهو أمر الذين كانوا قد تقدَّموا بالعودة، وعادوا، وانتظر للمتأخرين حتى وصلوا؛ حتى تكامل الجمع.
رسول الله 'صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ'، أمر بتنظيف مكان تحت (دوحات) أشجار، وعادةً ما يكون تحتها الشوك، أَمَرَ؛ فَقُمَّ ما تحتهن، يعني: نُظِّفَ ما تحتهن من الشوك ونحوه، وأمر بأن تُرَصّ أقتاب الإبل، وهي كثيرة؛ لأن الجمع عشرات الآلاف من الحجاج؛ فَرُصَّت أقتاب الإبل؛ من أجل أن تكون بشكل مِنْبَر مرتفع وعالٍ، حينما يصعد من فوقه يشاهده الجميع، ويرونه ويسمعونه، وصلَّى بالحجيج صلاة الظهر.
بعد أن أكمل صلاة الظهر، استدعى علي بن أبي طالب 'عَلَيْهِ السَّلَامُ'، وصعد وهو معه فوق أقتاب الإبل التي كانت قد رُصَّت، ثم خطب خطبةً عظيمةً ومهمة، والجميع يصغون له؛ لأن الأجواء كلها أجواء استثنائية، اجتماع طارئ، لأمرٍ مهم، وذكر لهم هو قبل أن يبدأ حتى بخطابه، أن الله أمره بإبلاغ أمرٍ مهم، وقرأ عليهم الآية المباركة، وخطب خطبته العظيمة والمهمة؛ حتى وصل إلى الموضوع المهم، وهو: محتوى البلاغ الذي أمره الله بإبلاغه.
في تلك الخطبة، أخبرهم من جديد أنه على وشك الرحيل من هذه الدنيا، وهذا- كما قلنا- ليس مجرَّد وداع عاطفي؛ بل ليربط المسألة بما بعدها، بالبلاغ نفسه، البلاغ له علاقة بالموضوع، ورغم أنه على وشك الرحيل من هذه الدنيا، قائلاً: ((أَلَا وَإِنِّي يُوْشِكُ أَنْ أُفَارِقَكُم))، هذا خبر مُحزن جدًّا ومؤلم؛ لأن رحيل رسول الله 'صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ'، وإن كان قد أتمَّ الرسالة وبلَّغ، وأتى بالقرآن الكريم، ويبقى القرآن بين هذه الأُمَّة، والتعليمات العظيمة التي بلَّغهم بها رسول الله 'صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ'؛ إلَّا أن غيابه نقصٌ لا يُعَوِّضه شيء، نقص كبير جدًّا على الأُمَّة.
((أَلَا وَإِنِّي يُوْشِكُ أَنْ أُفَارِقَكُم))، يعني: على مُقْرُبة، مقربة من الرحي (يُوْشِك)، ((أَلَا وَإِنِّي مَسْؤُول، وَأَنْتُم مَسْؤُولُون))، وفعلاً كما قال الله في القرآن الكريم: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}[الأعراف:6]، يعني: في يوم القيامة، الله يسأل الرسل، ويسأل الأمم أيضاً، ((أَلَا وَإِنِّي مَسْؤُول، وَأَنْتُم مَسْؤُولُون، فَهَل بَلَّغْتُكُم؟ فَمَاذَا أَنْتُم قَائِلُون؟))، لنلحظ هنا، كل هذا التعبير هو يدل على تركيز رسول الله 'صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ' على إقامة الحُجَّة بشكلٍ كامل.
فقام من كل ناحية من القوم مجيب؛ لأن الاجتماع كبير جدًّا، عشرات الآلاف من الحجيج، يقولون: (نَشْهَدُ أَنَّكَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُوْله، قَدْ بَلَّغتَ رِسَالَاتِه، وَجَاهَدتَ فِي سَبِيلِه، وَصَدَعت بِأَمرِه، جَزَاكَ اللهُ خَيرَ مَا جَزا نَبِيّاً عَن أُمَّتِه)، وهذا شهادة له، شهادة له بالإبلاغ، وبما هو أكثر من الإبلاغ، وهو مسألة: العمل على إقامة دين الله، وهداية عباد الله، وإرساء دعائم الإسلام... وغير ذلك.
ثم واصل خطبته، إلى أن قال: ((يَا أَيُّهَا النَّاس، إِنَّ اللَّهَ مَوْلَايَ، وَأَنَا مَولَى المُؤمِنِين، أَولَى بِهِم مِنْ أَنفُسِهِم، فَمَن كُنْتُ مَولَاهُ، فَهَذَا))، وأخذ بيد عليٍّ 'عَلَيْهِ السَّلَامُ' ورفعها مع يده، ((فَهَذَا عَلِيٌّ مَولَاه، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاه، وَعَادِ مَنْ عَادَاه، وَانصُر مَنْ نَصَرَه، وَاخذُل مَنْ خَذَلَه))، واستمر في خطابه، مؤكِّداً أهمية الموضوع، ومستشهداً عليهم بالبلاغ، قائلاً لهم، وهو يكرر الاستشهاد عليهم بأنه قد بلَّغهم: ((أَلَا هَلْ بَلَّغْت؟))، وهم يجيبونه: (اللَّهُمَّ بَلَى)، فيقول: ((اللَّهُمَّ فَاشْهَد))، ويكرِّر ذلك لثلاث مرَّات: ((أَلَا هَلْ بَلَّغْت؟))، وهم يقولون: (اللَّهُمَّ بَلَى)، فيقول: ((اللَّهُمَّ فَاشْهَد))، ويحرص مع ذلك على أن يصل هذا البلاغ إلى مجتمعاتهم وقبائلهم، وأن يستمر في الأُمَّة جيلاً بعد جيل؛ ولهـذا قال: ((فَليُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الغَائِب))؛ لأنه مطلوب أن يصل هذا البلاغ إلى الآخرين، فنزل قول الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى': {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة:3].
الآية المباركة في الأمر بالبلاغ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة:67]، ونص خطبة الغدير، الخطبة بكلها، وفي خلاصتها وجوهرها وأهمها: النص المتعلِّق بمسألة الولاية: ((يَا أَيُّهَا النَّاس، إِنَّ اللَّهَ مَوْلَايَ، وَأَنَا مَولَى المُؤمِنِين، أَولَى بِهِم مِنْ أَنفُسِهِم، فَمَن كُنْتُ مَولَاهُ، فَهَذَا عَلِيٌّ مَولَاه، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاه، وَعَادِ مَنْ عَادَاه، وَانصُر مَنْ نَصَرَه، وَاخذُل مَنْ خَذَلَه))، ثم النص القرآني المبارك، في كمال الدين وتمام النعمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة:3]، كل هذا يدل على الأهمية الكبرى لموضوع الولاية، والواقع يشهد على ذلك، واقع المسلمين يشهد على الأهمية الكبيرة لذلك.
هناك أيضاً السياق القرآني، الآيات القرآنية؛ لأن هذا الموضوع أيضاً أتت الآيات المباركة عنه في (سورة المائدة)، وأيضاً في سياقٍ مهمٍ جدًّا لهذه الأُمَّة، كله يدل على أهمية الموضوع، السياق الذي أتى الحديث فيه عن مسألة الولاية وأهميتها في (سورة المائدة)، هو سياق يوضِّح لنا بشكلٍ تام كمسلمين، المخاطر الكبرى علينا في كل عصر، ولاسيَّما في العصور المتأخرة، ولكن في كل عصر؛ لأن واقع الأُمَّة مترابط، وكل مرحلة تؤثِّر على ما بعدها، الخطر الكبير على هذه الأُمَّة من جهة اليهود، وأوليائهم من النصارى، ومخاطر التَّوَرُّط في التَّوَلِّي لهم، وفي الخضوع لولايتهم، وحاجة الأُمَّة الكبيرة جدًّا إلى ما يُحَصِّنها من ذلك، ويحميها من ذلك.
الآيات المباركة في (سورة المائدة) من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[المائدة:51]، هي تُحَذِّر بأشد التحذير من التَّوَلِّي لهم، من اتِّخاذهم أولياء، اتِّخاذهم أولياء:
- يشمل التأييد لهم في الموقف.
- يشمل كل أشكال التعاون معهم ضد الإسلام والمسلمين.
- يشمل أيضاً الخضوع لهم، والطاعة لهم، والتعامل معهم كجهة آمرة، مُقَرِّرة، مُوَجِّهة في مختلف شؤون الحياة.
وهذه حالة خطيرة جدًّا، إلى درجة أنه يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[المائدة:51]، يعني: يصبح حكمه عند الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى' وفي كتاب الله كحكمهم، كما لو كان يهودياً، أو نصرانياً، يعني: قضية خطيرة جدًّا، إخلال كبير جدًّا في انتمائك الإيماني وانتمائك الإسلامي، إلى أسوأ مستوى يمكن أن تتصوره، وتصبح محسوباً منهم في ما هم عليه: من إجرام، من إضلال، من طغيان، من فساد، وشريكاً لهم في كل ذلك، فالمسألة في غاية الخطورة.
الكثير من الناس يستبسطونها، ويتهاونون تجاهها، ولاسيَّما مع غياب التثقيف الديني، والتعليم الديني، والتوجيه الديني الذي يبيِّن أهميتها ويركِّز عليها، في كثيرٍ من أبناء الأُمَّة، ليس هناك نشاط توضيحي، تبيني، تفهيمي للناس، فمع غياب هذه المسألة من أوساط الناس، يستبسطها الكثير من الناس:
- يستبسطها في واقعه هو؛ فيتحرَّك بما فيه خدمة لليهود والنصارى، أو تأييد لمواقفهم ويستبسط المسألة، أو رضا لما يفعلونه، أو أي شكلٍ من أشكال الموالاة لهم.
- أو لديه تقبُّل بمسألة سيطرتهم على هذه الأُمَّة، وفرض إملاءاتهم على هذه الأُمَّة، وتدخُّلهم في كل شؤون هذه الأُمَّة، وهذا التَّقَبُّل هو بعينه مسألة التَّوَلِّي لهم واتِّخاذهم أولياء.
- أو تَقَبُّل المسألة لمن هم لديهم سلطة، نفوذ، أمر ونهي فيه، وهو خاضعٌ لهم، يتقبَّلها لغيره، لكن فيما يؤثِّر عليه أيضاً.
الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى' في التحذير منهم، أيضاً حذَّر من هذه المسألة في آيات كثيرة، آيات أخرى، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}[آل عمران:100]، لأن المسألة ليست مسألة عادية وبسيطة؛ لأنها تتَّجه في تأثيراتها السيئة على التزاماتنا الدينية، والإيمانية، والأخلاقية: في المبادئ، في المواقف، في الأخلاق... في كل شيء.
القرآن الكريم، كتاب الهداية من الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'، الذي قال الله عنه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[الإسراء:9]، هو يُقَدِّم الهداية الواسعة لنا، في كل ما نحتاج إلى الهداية فيه، هو يُرَسِّخ لدينا نحن كمسلمين النظرة الصحيحة تجاههم كأعداء، تجاه اليهود وأوليائهم من النصارى؛ باعتبارهم أعداء لنا بكل ما تعنيه الكلمة؛ بل اليهود أشد عداءً من غيرهم من كل الأعداء لهذه الأُمَّة كأعداء؛ ولهـذا يقول عنهم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ}[المائدة:82]، فكيف تتولى عدوك، الذي هو يعاديك، كل أنشطته، كله برامجه، كل توجهاته، كل سياساته، هي عدائية، تستهدفك بشكلٍ عدائي، وإن كانت مخادعة، وإن كان فيها تلبيس، أو خداع؟!
يُقَدِّمهم كأعداء حاقدين جدًّا، أشد حالات الحقد؛ ولهـذا قال عنهم: {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}[آل عمران:119]، هذا يُعَبِّر عن حقد شديد؛ بل قال عنهم أيضاً: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}[البقرة:105]، وهذا من الحقد الشديد، أنه لا يريد لك أي خيرٍ إطلاقاً حتى من الله، أي خير مهما كان، كل أنواع الخير، يعني: لو تمكَّنوا من أن يمنعوا عنَّا الأوكسجين الذي نتنفسه لمنعوه، لا يريدون لنا أي خير، أي عِزَّة، أي كرامة، أي نهضة، أي خير في أي شأنٍ من شؤون الحياة، في كل ما تتناوله أيَّ خير.
وهم- في نفس الوقت- مخادعين ومضلِّين، يعني: أعداء يستخدمون أسلوب الإظلال، قال عنهم: {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ}[النساء:44]، وهم يعملون على هذا الأساس: الإضلال، والخداع للأُمَّة، وكل العناوين التي يخادعون بها الأُمَّة كعناوين جذَّابة ومغرية؛ إنما يستخدمونها للإظلال لهذه الأُمَّة، فهم يريدون لهذه الأُمَّة أن تضل، أن تضيع في كل شيء: في دينها ودنياها، أن تكون أمها ضائعة.
وكأعداء مفسدين أيضاً، قال عنهم: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا}[المائدة:64]، (يَسْعَوُنَ): لديهم نشاط مكثَّف، وجاد، ومتسارع، ومستمر، في الإفساد الشامل، الإفساد في الأرض في كل مناحي الحياة.
كذلك القرآن الكريم يبيِّن لنا كثيراً عن أساليبهم الخطيرة، الهادفة إلى تطويع الأُمَّة، يعني: هم يعملون إلى أن تتحوَّل هذه الأُمَّة إلى أُمَّة مطيعة لهم، التطويع أسلوب خطير جدًّا، وهم أعداء في نفس الوقت، لكنهم يعملون على تحويل هذه الأُمَّة إلى أُمَّة مطيعة لهم: حكوماتها مطيعة لهم، شعوبها مطيعة لهم، احزابها، سياسيوها، كوادرها بكل أشكالهم، نخبها... الكل يكون مطيعاً لهم، ويتحوَّل إلى مطيع لهم: يتقبَّل بإملاءاتهم، يتأثَّر بأفكارهم، يتقبَّل ما هو منهم، يتَّجه الاتِّجاه الذي يريدونه هم... وهكذا.
ومع هذا الخطر من جهتهم هم، هناك حالة خطيرة من داخل الأُمَّة تلتقي بهذا الخطر، هي: حالة الانحراف في داخل الأُمَّة، المتمثلة بحركة النفاق، وما يتماهى معها، ممن يشملهم العنوان القرآني: في قول الله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ}[المائدة:52]، وهو عنوان يشمل فئات واسعة، من الذين لديهم اختلال كبير في عمق إيمانهم، في واقعهم النفسي، في قلوبهم، وأنواع المرض التي تعني: اعتلال معنوي، وإيماني، وأخلاقي، خلل في هذه الجوانب، أنواع كثيرة جدًّا:
- لدى البعض من الناس هو: الشك، هو الريب.
- لدى البعض من الناس هي: الأطماع والأهواء.
- لدى البعض من الناس هي: المخاوف.
- لدى البعض من الناس هو: الميل بدوافع أو بأخرى.
الأنواع كثيرة جدًّا، ليس السياق في كلامنا هو الحصر لها، لكن البيان على أنها حالة تتَّجه من داخل الأُمَّة، يعني: حالة تتحرَّك من داخل الأُمَّة على هذا الأساس: تدفع بالأُمَّة نحو اتِّخاذ اليهود والنصارى أولياء، فهي تُرَوِّج لذلك، تسعى لذلك، تضغط لذلك، تتحرَّك بقدراتها بإمكاناتها، بوسائلها الإعلامية؛ لإقناع الآخرين بذلك، للدفع بالآخرين بذلك؛ لأنها تركِّز على أن تُقَدِّم ما تعتبره تودُّداً إليهم، خدمةً لهم، تَقَرُّباً إليهم، وبمسارعة، (مسارعة) اهتمام كبير، المفترض بحسب النظرة القرآنية هي المسارعة إلى العداء لهم، إلى اتِّخاذ موقف منهم، والمسارعة إلى طريق مرضاة الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'؛ لكنَّ هذه المسارعة معاكسة، في اتِّجاه يخدمهم.
فالآيات القرآنية هي تبيِّن خطورة هذه الحالة من الانحراف، والسلبيات الكبيرة لها، وتبيِّن- وبيان ممن؟ من الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'، الذي له عواقب الأمور، القائل 'جَلَّ شَأنُهُ': {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}[الحج:41]، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}- كيف النتيجة لهذه الحالة من الانحراف، التي تتَّجه نحو اتِّخاذهم أولياء، بالولاء لهم في الموقف، وبتمكينهم من السيطرة على هذه الأُمَّة، والانصياع لمؤامراتهم، لتوجهاتهم، للمواقف التي يدفعون إليها، والتَّقبُّل بما يقدِّمونه على كل المستويات، وبمسارعة واهتمام كبير، الله يؤكِّد أنَّ العاقبة لهذا التَّوَجُّه، لهذا الانحراف، للذين يسيرون وفق ذلك: في المسارعة فيهم، العاقبة هي الندم والخسران، أن يصبحوا نادمين وخاسرين، وهذه حقائق قرآنية، مهما- في ظروف معيَّنة- كان الواقع بالنسبة للبعض واقعاً يطمئنون إليه، في حساباتهم السياسية وغيرها، لكن الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى' هو من يملك أن يصنع المتغيرات الكبيرة، وأن يُنَفِّذ وعيده الحق، وأن تجري سنَّته التي تجري في مسيرة الحياة، وهو القادر 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى' على تنفيذ ما توعَّد به؛ ولـذلك هذه حقائق حتمية، حقائق حتمية، تتحقق بلا شك: أن يصبحوا خاسرين، وأن يصبحوا نادمين.
الآيات القرآنية، التي رسَّخت كيف تكون نظرتنا ورؤيتنا صحيحة وفق هداية الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'، كيف يكون اتِّجاهنا كَأُمَّة، كمسلمين، بما يحمينا، يحمينا من الانزلاقة والتَّوَرُّط في الاتِّجاه الذي لا يفيدنا؛ إنما يمكِّن الأعداء، وفي نفس الوقت تكون عاقبته الخسارة والندم، الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى' في هذا السياق قال 'جَلَّ شَأنُهُ': {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ}[المائدة:54]؛ لأنه سياق ارتداد، الخضوع لليهود وأوليائهم من النصارى، والاتِّجاه لموالاتهم على مستوى الموقف، وعلى مستوى التعاون معهم في إطار الموقف، والمساندة لهم في إطار الموقف، وعلى مستوى التَّقَبُّل بهم كجهة آمرة، مقرِّرة، متحكِّمة، تفرض إملاءاتها، تتدخَّل في شؤون حياتنا المختلفة: في التعليم، في التثقيف، في الخطاب الديني، في الإعلام، في التأثير على الرأي العام، في الاقتصاد... في مختلف شؤوننا، وهم يحرصون على ذلك، يعملون على أن يقولبوا وينظِّموا واقع هذه الأُمَّة بما يخدم مصالحهم، والذي يخدم مصالحهم ما هو؟ ما يكون ضلالاً، ما يكون انحرافاً، ما يكون تحريفاً، ما يكون زيغاً، ما يكون انصرافاً عن هدي الله وعن الحق، فالحالة ستكون حالة ارتداد، {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[المائدة:54]، ثم قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[المائدة:55-56]، فالآيات المباركة قدَّمت الولاية كأساس إيماني، يحمي الأُمَّة من ولاية أعدائها اليهود والنصارى، أساس إيماني يمثِّل حماية للأُمَّة، وتحصين للأُمَّة في هذا السياق نفسه، وأيضاً يصلها: يصل الأُمَّة التي تتَّجه على هذا الأساس، ومن يتَّجهون على هذا الأساس برعاية الله، وهدايته، ونصره، ويجعلها في موقع الصراع مع أولئك الأعداء، الذين هم أعداء مضلُّون، مفسدون، حاقدون، مجرمون، ظالمون، أبرز عنوان هو الظلم من عناوينهم، مما يعبِّر عن توجُّهاتهم، أعمالهم، سياساتهم، مواقفهم.
فالأُمَّة في إطار الصراع معهم، تكون في إطار مهمة مُقدَّسة؛ ولهـذا قال: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ}[المائدة:56]، تواجه شر، وطغيان، وإجرام، وظلم، وإضلال، وفساد اليهود، وأوليائهم من النصارى، في إطار مهمةٍ ومسؤوليةٍ مقدَّسة، ومنطلقٍ إيماني، ومهمة مُتَّصِلَة بالله في هديه وتعليماته، وهذا ما أراده الله للأُمَّة الإسلامية: أن يكون لها هذا الموقع في الصراع مع اليهود، موقع أنها تؤدِّي مسؤوليةً مهمةً مقدَّسة:
- فهي أُمَّة الخير، التي تواجه شرَّ اليهود.
- وهي الأُمَّة القائمة بالقسط والعدل، التي تواجه ظلم اليهود، وهم أظلم الناس، وأسوأ الناس ظلماً، وأشدُّ الناس ظلماً.
- وهي الأُمَّة التي تتحرَّك بقيم الحق، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، في مواجهة منكرهم، وفسادهم، وإجرامهم.
- وهي الأُمَّة التي تحمل الهدى والنور للبشرية، في مواجهة ضلالهم، وإضلالهم، وظلماتهم.
هذا الموقع الذي أراده الله للأُمَّة، وهي في ذلك كله تكون مُتَّصِلةً بهدى الله، تتحرَّك على أساس تعليماته، وتعتمد عليه، وتثق به، وتحظى برعايته ونصره؛ فتؤدِّي هذا الدور وهي في واقع الحال حزب الله، {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[المائدة:56]، {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[المائدة:56]، يكون التَّوَلِّي لله، ولرسوله، وللذين آمنوا في هذا السياق، هو هذا الاتِّجاه: هو التَّحَرُّك من هذا الموقع الذي أراده الله للأُمَّة في أداء مسؤولياتها الإيمانية والمقدَّسة والعظيمة.
الأعداء هم يسعون- اليهود، وأولياؤهم من النصارى، ومعهم حركة النفاق في الأُمَّة- هم يعملون دائماً على تجريد الأُمَّة وفصلها من هذه القيم، وهذه العناوين، وإبعادها عن هذا الموقع، فلو خاضت صراعها مع اليهود، يكون اليهود من جانبهم هم دائماً ما يركِّزون على أن يحملوا تلك العناوين: عناوين (النور في مواجهة الظلام)، (الخير في مواجهة الشر)، وحتى العنوان الديني، ثم كذلك التَّذَرُّع والاحتجاج بنصوصهم المُحَرَّفة، التي هي بعيدة كل البعد عن دين الله، ويكون للآخرين موقع آخر: عناوين سياسية مجرَّدة، أو عناوين حقوقية مجرَّدة، بمعنى: حينما تتحرَّك الأُمَّة في المواجهة لهم، يكون العنوان الذي تتحرَّك به- حصرياً- محدوداً جدًّا في نطاق أن تكون مطالبة بالأرض: [لا تأخذوا عليَّ أرضي]، ولا تُسنِد هذا الحق- هو حق، لكن لا تسنده- إلى قيمها الإيمانية، الدينية، ولا تتحرَّك فيه كأُمَّة تتمسَّك بقضية عادلة، تنطلق في إطار العدل، الحق، الخير، ولا ترتبط بصلتها الإيمانية والدينية، وهذا من خبث اليهود، يعني: عندما تتأملون- مثلاً- وتسمعون كلمات قادتهم من كبار المجرمين، وأسوأ المجرمين، وأفظع الناس إجراماً، وظلماً، وسوءاً، وقبحاً، وضلالاً، كيف يحاول أن يأتي في حديثه بتلك العبارات: عبارات أنهم هم الجهة التي تمثِّل الخير، والنور، ويواجهون الحركات الظلامية، والإرهابية، والمخربين... وتلك العناوين.
الشيء المؤسف: أنَّ أسلوبهم في تجريد الأُمَّة من تلك العناوين، التي عليها أن تمثِّلها بحق، بحق، وصدق، وواقع، وإزاحتها عن الموقع الذي ينبغي أن تنطلق فيه، وهو موقع مشرِّف عظيم، تؤدِّي فيه مسؤولية مقدَّسة وعظيمة، ومسؤولية إيمانية ورسالية، في إطار رسالة الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى' وتعاليمه وإرث الأنبياء 'عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ واَلسَّلَامُ'؛ تقبل بأن تترك كل ذلك، تتحرَّك في إطار عناوين حقوقية مجرَّدة، أو عناوين سياسية مجرَّدة، وتترك لأولئك أن يحملوا كل تلك العناوين، هذا من مكر الأعداء، لماذا؟ لأن الأُمَّة إذا جُرِّدَت من كل ذلك؛ تفقد أشياء كثيرة جدًّا:
- في مقدِّمتها: الاتِّصال والارتباط بالله، في أداء مسؤولية عظيمة مقدَّسة.
- كذلك تهبط في مستوى القضية، يعني: من قضية- مثلاً- إقامة العدل في الحياة، إقامة القسط في الحياة، إقامة الحق في الحياة، إقامة الخير في الحياة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التَّصَدِّي للظلم، للشر، للطغيان، للإجرام، للفساد، للإضلال؛ تُجَرَّد من كل ذلك، فتهبط إلى عنوان بسيط جدًّا، وكأنها مُنَازَعة على قضية مجرَّدة عن كل هذه العناوين، يعني: ليس فيها مسألة حق، عدل، ليس فيها مسألة خير، ليس... كل هذه العناوين مفصولة عنها؛ مجرَّد عنوان (الأرض) مثلاً، المطالبة بالأرض، المطالبة بهذه العناوين مجرَّدةً عن كلِّ ما يعطيها قدسية، أهمية، اعتبار مهم، وهذا هبوط له تأثيره النفسي، حتى على المستوى النفسي؛ وبالتـالي حتى هم عندما يأخذون ما يأخذونه على الآخرين، وكأنهم أخذوا شيئاً عادياً، وفعلوا شيئاً عادياً، والخلاف بينك وبينهم على مسألة عادية جدًّا، فهم يهبطون بك في قضيتك؛ بما يؤثِّر حتى على المستوى النفسي والمعنوي، وعلى مستوى الرعاية الإلهية، والتأييد الإلهي، والنصر الإلهي... وعلى اعتبارات كثيرة جدًّا.
أمَّا هم فلا يفعلون ذلك، هم يأتون ليحملوا كل تلك العناوين، ويحشدونها بغير حق، في غير محلها، بل يسيئون إليها؛ حينما يحاولون أن يقدِّموها عناوين لإجرامهم، لفسادهم، لظلمهم، لطغيانهم، لظلماتهم وفسادهم.
- ثم هم يحاولون أن يسلبوا الأُمَّة عن كل ما يؤهِّلها لتكون بمستوى مواجهة تلك التحديات؛ لأن الارتباط بهدى الله وتعليمات الله يبني هذه الأُمَّة: على مستوى البصيرة، والوعي، والنور، على مستوى الحالة المعنوية، على مستوى زكاء النفوس، يُحَصِّن الأُمَّة من تأثيرات أولئك، في نشاطهم في الإضلال والإفساد، والحرب الفكرية، الحرب الناعمة، الشيطانية، المفسدة، المضلَّة... كل أشكال الاستهداف الفكري، والثقافي، والنفسي، والمعنوي... وغير ذلك، فهم يريدون أن يضربوا هذا الجانب؛ ليسهل عليهم كل شيءٍ بعد ذلك، وهذا فعلاً يحصل.
ولـذلك فالإيمـــان بولايـــة الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى' هو:
- يصل الأُمَّة بهدى الله وتعليماته الهادية، والمباركة، والحكيمة.
- ويربطها في مختلف شؤون حياتها بذلك، يعني: تجعل مسيرتها في الجانب السياسي، في الجانب الاقتصادي، في الجانب الاجتماعي... في مختلف الجوانب الحضارية، على أساس تعليمات الله وتوجيهاته القيِّمة والحكيمة.
- ويربطها بنهج الله الحق، وهذا شيءٌ مهمٌ للأُمَّة: أن تتَّجه على أساس نهج الله وهديه وكتابه؛ وبالرموز الهداة، الذين يتحرَّكون بها على هذا الأساس، يسيرون بها على أساس هدى الله وتعليمات الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'.
- ويحميها من الموالاة لليهود، ومن الخضوع لأمرهم.
الولاية لليهود، التَّوَلِّي لهم هو التَّوَلِّي للعدو، المضل، المجرم، الطاغوت، الطاغوت، هم طاغوت، طغاة، وهم ومن اتَّجه معهم طغاةٌ عن نهج الله وعن هدية، منهجهم: هو الطغيان، هو الظلم، هو الانحراف، هو التجاوز لأمر الله، لهدي الله، لنور الله، للحق، للعدل، للخير، تجاوز لكل ذلك، فمن يسير في نهجهم يطغى، يتحوَّل إلى طاغية، هو طاغٍ، متجاوز لحدود الله، وأوامر الله، مفسد، مضل، ظالم، يتَّجه الاتِّجاه المنحرف في هذه الحياة؛ وهم- بالتالي- امتداد لولاية الشيطان، وكلهم من أولياء الشيطان، وولاية الطاغوت هي ولاية الشيطان، أبرز عنوان لها هو: الظلم، وكذلك الظلمات:
- ولهذا قال الله عنهم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[المائدة:51]، وكذلك هو حال من يواليهم، يتحوَّل إلى ظالم، ومن أظلم منهم! هل تشاهدون أظلم مما يفعله العدو الإسرائيلي في قطاع غزَّة بالشعب الفلسطيني؟! منتهى الظلم، أبشع أنواع الظلم، والظلم واسع، ليس على مستوى فقط الإجرام بالقتل:
- إضلالهم للناس، نشرهم للضلال في العالم: الضلال العقائدي، والفكري، والثقافي، والسياسي... كل أشكال الضلال، هو من الظلم للناس، وظلم رهيب جدًّا.
- نشرهم للفساد للناس: الإفساد للناس، الإفساد للمجتمعات البشرية بكل أشكال الإفساد، ومنه: الإفساد اللاأخلاقي، للترويج للفواحش والرذائل، هو أيضاً من الظلم للناس.
وهكذا يمتد ظلمهم إلى كل مجال.
- وأيضاً الظلمات، في إضلالهم للناس، في حجبهم للناس عن الحق والحقائق، وإبعادهم للناس عن نور الهدى، عن التعليمات الإلهية، عن القرآن الكريم، الذي هو نور الله، الذي يحتوي رسالة الله 'سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى'، وإرث الأنبياء 'عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ واَلسَّلَامُ'، هو أيضاً من الاتِّجاه بالناس في الظلمات؛ ولهـذا يقول الله في القرآن الكريم، للتفريق بين الولايتين (ولاية الله، ولاية الطاغوت): {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}[البقرة:257]؛ ولـذلك هم الظلاميون، هم الظلاميون، وهم الطغاة المجرمون، المضلُّون، المفسدون.
هم يعملون على أن يجرِّدوا الأُمَّة من كل القيم، ومن كل عناوين الخير؛ بينما هم يحملونها بشكلٍ زائف، ومتباين معها تماماً، وكل اتِّجاههم لضرب هذه الأُمَّة في روحها المعنوية، وفي أن يجرِّدوها من كل الأسس الإيمانية الدينية؛ حتى تبقى أُمَّة بدون جذور، يسهل عليهم أن يقلعوها.
اتِّجاههم في هذا العصر للارتداد بها عن دينها، اتِّجاههم أيضاً لأن يقولبوها في كل شؤون حياتها على أساس ما يخدموا مصالحهم، حتى في الثقافة والمفاهيم، حتى في الخطاب الديني، شيءٌ واضح.
اليهود في هذا العصر، وفي هذه المرحلة، ومعهم من معهم من النصارى، {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ ب