اخبار اليمن
موقع كل يوم -شبكة الأمة برس
نشر بتاريخ: ٢٢ تشرين الثاني ٢٠٢٥
عمر شبانة *
ما بين رصد الأحوال السياسية والعسكرية والاجتماعية الممتدّة في السودان منذ خمسين عامًا، ونواتجها الكارثية، في ما يتعلّق بالشأن العام، وبين البحث والتساؤل في ما يخص الحيوات الخاصة للإنسان الفرد، وما يتعلق بذاته وخصوصيّته وشؤونه الخاصة، في أحواله النفسية والمعيشيّة، في الوطن والغربة، يعمل مؤلّف رواية 'البحث عن مصطفى سعيد'، الروائي السوداني عماد البليك، على محاور عدة، مركزها شخصية مصطفى سعيد، التي يستعيرها من رواية الطيب صالح 'موسم الهجرة إلى الشمال'، أقول يستعيرها ولا يكرّرها، بل هو ينطلق منها لتوظيفها في البحث عمّا آلت إليه البلاد السودانية، والإنسان السوداني من كوارث.
الرحلة التي يقوم بها محمود سيد هربًا من مطاردة قوى 'الأمن'، ومن ويلات الحرب، ليست فقط رحلة بحث عن الذات، عبر البحث عن مصطفى سعيد، بل هي رحلة في تاريخ السودان وحاضره، وتمتد حتى التاريخ الراهن، وتزامنًا مع طوفان غزة وتوابعه، حيث تعيش السودان قدرًا من التهميش لصالح الاهتمام إعلاميًّا بغزة، كما تقول الرواية. وما بين الخرطوم وغزة حتى كييف، يخوض المؤلف، في روايته، صراعًا مع قوى عدة، من الاستبداد والفساد المدعومين من الإمبريالية والصهيونية (إسرائيل)، والغرب عمومًا، ضمن صراعات ما يزال الغرب هو من يتحكم بمصيرها.
ربّما يكون سرّ هذه الرواية في جمعها هذه المحاور أولًا، وتعدّد أساليب المعالجة لهذه المحاور، فهي تجمع بين السرد الإنشائي والخطابيّ، وبين الحوارات والأسئلة المكثفة، بما فيها حوارات مع مؤلف الرواية نفسه حول روايته وطبيعتها، ثم التأمّلات الفكرية والفلسفية والنفسية، واستخدام مناهج علم النفس وتطبيقاته في سرد روائي، من دون أن تحضر النظريات في صورة مجرّدة، بل عبر أسلوب سرديّ حواريّ ممتع ومُقنع. وإلى المشاهدات والتصوير الذي يقارب التصوير السينمائي بما فيه من حركة، فضلًا عن استشهادات ومقاطع من رواية 'موسم الهجرة...'، وصولًا إلى اللجوء لاستخدام الحوار مع الشات في عالم (جي بي تي) لتحليل النصوص. وهذا كلّه يأتي في لغة متعددة الصور أيضًا، بين الوصف المباشر واللغة التصويرية البلاغية، حتى إن الراوي محمود (بطل الرواية، الذي يمثل قناعَ مؤلف الرواية في جوانب عدة) بدأ شاعرًا، ثم قاصًا قيل عنه في بلدته إنه سيكون 'الطيب صالح الجديد'، ثم يغيب عن الكتابة، ولا يرجع لها إلّا حين يكون نزيل مستشفى الأمراض النفسية في لندن، فما العلاقة بين الكتابة والعلاج النفسيّ؟! هذا ما سيكشف عنه الطبيب.
الاغتراب بحثًا عن الذات
على مدى سنوات، يعيش محمود، بطل رواية 'البحث عن مصطفى سعيد' (دار إبييدي، القاهرة، 384 صفحة، 2025)، رحلة عذاب سياسية سودانية تدفعه إلى الهجرة، فينتقل إلى الخليج أوّلًا، ولندن ثانيًا، وسط مشاعر بالاغتراب الداخلي، منذ بداياته في السودان، بين سياسات متضاربة، في عهد النميري وما بعده، مشاعر مركزها حالة البحث عن الذات، وحالة اغتراب خارجيّ، عبر المغامرات والدخول في تجارب يشوبها القلق والخوف والتوتر وغياب اليقين، في حالة وجودية من الخواء والشعور بلا جدوى أي شيء، في التنقل بين الإخوان المسلمين والشيعة، ثم الإلحاد، لكنه يستمر في البحث عن مصطفى سعيد، بحثًا عن معنى لأي شيء، في إطار أسئلة وجودية وواقعية، تمتزج بالأسئلة الفلسفية.
'كثيرة هي الحكايات التي تحتويها الرواية، أهمها ربما علاقة بطلها محمود مع البروفيسور
الديبلوماسي مصطفى سعيد، فهو الذي سيكشف عن جده مصطفى سعيد، الذي كتب عنه الطيب صالح روايته'
في الحديث عن عهود النميري ومَن بعدَه، يسلّط الكاتب الضوء على ممارسات الرؤساء غير الإنسانية، والتي تقارب الإبادة، ويقدم مشاهد مرعبة من العنف، التعذيب في السجون، والسحل في الساحات، والمقابر التي تفوح منها روائح الجثث، واغتيال القادة المقرّبين من الحاكم، حيث نقرأ في فصل 'وادي الحمار'، عن النميري والإعدامات للمعارضين، ودفن الجثث في الوادي. وفي مشهد آخر، تظهر حياة البذخ المرعب التي يعيشها الحاكم، مقابل البؤس الشديد الذي يعيشه الناس. ويتساءل المؤلف/ الراوي: ما الذي يجعل الإنسان على هذا القدر من التوحّش؟ ويجيء الجواب بأنه 'شهوة السلطة' وامتيازاتها.
يتنقل محمود بين وصف الأحواال السودانية المتردية، وانتقاله إلى الخليج لنشهد حياته الباذخة والمستقرة، ثم عودته إلى بلده بعد تحوّلات ثورة بدت مبشرة بالتغيير، يكتشف أنها تفضي إلى أشكال جديدة من الفساد والخراب والبؤس، فيقرر الرحيل من جديد، ولكن إلى لندن هذه المرة، متتبّعًا أثر مصطفى سعيد الذي اخترعه الطيب صالح، بمواصفاته التي تجمع الذاتي والثقافي، في ما يتعلّق بالعلاقة المعقّدة بين الشرق والغرب، خصوصًا في الجانب الجنسيّ، فيكتشف محمود بطل البليك أن لندن قد اختلفت بين زمن الطيب صالح وزمنه، أي بين الخمسينيات والزمن الرهن، لكنه يعيشها بثنائية الحلو والمر فيها. يغدو إلى الحانات، يلاحق النساء، لكنه في المقابل يتعرّض للأقسى، فيجري اعتقاله في محطة للقطارات بتهمة التخطيط لتفجيرها، ومن جانب آخر يتم إدخاله مستشفى للأمراض النفسية.
في لندن، يلتقي محمود بشخص هو جاره، وهو كما يقدّم نفسه دبلوماسيّ سابق، لذلك فهو يشكّل مفاجأة له، حيث إن اسمه مصطفى سعيد، ويشكل هذا الاكتشاف حافزًا للبحث عن مصطفى سعيد، ويطرح الافتراض بأن هذا الشخص قد يكون حفيد مصطفى سعيد الأوّل، الأصلي الذي يُعتقد أنه شخصية واقعية حقيقية، وليس مجرد شخصية ابتكرها الطيب صالح؟ ومع البحث والنقاشات، وبعد عودة محمود إلى بلدته في السودان، ولقائه مع أحد أساتذته (حسين)، يذكر له أنه كان له أستاذ اسمه مصطفى سعيد، ما يجعله يتيقن من أن مصطفى هذا شخصية حقيقية.
مع الطبيب النفساني هوفمان
يحتلّ الجانب النفسانيّ في الرواية حيّزًا مركزيًّا، في ما يتعلق بشخصية البطل محمود، وطبيعة المرض الذي يعاني منه، وهو ما يظهر في النقاشات بينه وبين طبيبه هوفمان، نقاشات مطوّلة ومعمّقة لا تفضي إلى شيء، خصوصًا بالموت المفاجئ للطبيب قبل الوصول إلى نتيجة، ليبقى محمود حائرًا وتائهًا يتساءل عن صدقيّة هذا الطبيب. أما الحالة التي يتوصل الطبيب إلى تشخيصها فهي ما يسمّى 'تبدُّد الشخصية/ Depersonalization'، وتعني التشظي والانفصام، وغير ذلك. لكن محمود يدخل في مزيد من الشكوك والأسئلة. وتظلّ أسئلته تتحرك بين أسئلة الواقعي والخيالي في تجربته، بحثًا عن ذاته أولًا، وحول 'الذات' السودانية التائهة في محطات التغيير. وهذا كله يجعله يتردّد بين العيش بسلام، وبين سبل علاج حالته النفسية، فينشب الصراع بينه، هو المثقف الكاتب، وبين طبيبه الذي يبدو ليس أقلّ عصابيّة واضطرابًا. لكنّه حين يعرض الكتابة وما تقدمه له، يشجعه الطبيب بأن الكتابة وسيلة للعلاج. وفي لحظة نشوب ما يرى أنه 'ثورة' سودانية جديدة، يقرر العودة إلى بلده رغم الحرب الشرسة الجديدة، ويكون مصيره الموت برصاصة. ونحن هنا ما نزال بين الواقعي والمتخيّل الذي تتسم به الرواية.
هذه الحالات كلّها من التحوّلات يقودها المؤلّف بقدر كبير من التشويق في السرد، والانتقال من حكاية إلى أخرى. فيحضر المؤلّف بصفته الشخصية، وبعنوان روايته الماثلة بين أيدينا، في حوار (سين/ جيم)، ليشرح بعض تفاصيل روايته، تشويق يجعل القارئ متلهّفًا لمعرفة نهاية هذه الشخصية المعقّدة المضطربة (محمود)، في عالم شديد الاضطراب، فيتابعها خطوة بخطوة، في هجرته الأولى إلى الخليج، وعودته التي يندم عليها، ثم هجرته إلى لندن التي تبيّن له أنها مدينة جميلة، لكنها طاردة. وهو في الحالين يرى في الخرطوم، ويعني السودان بصورة عامّة 'المدينة التي تبتلع أحلام من لا سند لهم... وبلا قلب'.
كثيرة هي الحكايات التي تحتويها الرواية، ومن الصعب التوقف عندها جميعًا، لكن الأهم ربما هو علاقة بطلها محمود مع البروفيسور الديبلوماسي مصطفى سعيد، فهو الذي سيكشف عن جده مصطفى سعيد، الذي كتب عنه الطيب صالح روايته، فهل كتب الطيب صالح روايته عن شخصية حقيقية؟ هذا سؤال من أسئلة رواية البليك، سؤال لا نجد إجابة عنه. لكن الرواية تسعى ــ أساسًا ــ للبحث في تاريخ السودان، وفي ما يجري فيه منذ خمسين عامًا من الحروب، من جهة، وما فعلته هذه الحروب بالإنسان السوداني من جهة ثانية، وهو ما تجسّده حال محمود في تشرّده، وما عاشه من مصاعب.
* كاتب وصحفي أردني













































