اخبار اليمن
موقع كل يوم -شبكة الأمة برس
نشر بتاريخ: ١٩ تموز ٢٠٢٥
حوار : مارغو موراسو - ترجمة: أريج جمال
في عام 2023 صدر لأول مرة في باريس كتاب «نمرٌ حزينٌ» Triste Tigre، لمؤلفته الفرنسية نيچ سينو، ولم يلبث أن حقق نجاحًا كبيرًا ولفت الأنظار إليه بشدة. نافس الكتاب على جائزة غونكور للرواية في نفس العام، وظل مُحتفظًا بمكانته في القائمة القصيرة، وبرغم عدم حصوله عليها، ربما لعدم التزام مؤلِّفته بالشكل الصارم للرواية، لم ينتقص هذا من شأن الكتاب ولا من حظوظه الأدبية، فحصد «نمرٌ حزينٌ» جائزة فيمينا المرموقة. الأهم من التتويج الرسمي، كان التفاعل الذي أثاره على مستوى القراء والصحافة الفرنسية والإعلام، إذ نوقش ضمن أهم وأجمل الكتب التي صدرت مؤخرًا في فرنسا، وتتحدث عن الاعتداءات الجنسية التي يتعرض لها الأطفال والمُراهقون في محيط العائلة ومن أشخاص ذوي نفوذ سواء سياسي أو ثقافي، في غياب رادع قانوني واجتماعي حقيقي. تكلمت نيچ سينو عن الاغتصاب المتواصل الذي تعرضت له من زوج أمها لسنوات طويلة، منذ كانت طفلة وإلى أن صارت مُراهِقة. لكنها لم تكتفِ بهذا الاستدعاء والبوح الشخصي، إنما حللت كذلك بأسلوب قوي ومُتبصر آليات السيطرة والهيمنة النفسية التي يُمارسها المعتدون، وتطرقت إلى الأعمال الأدبية العظيمة التي تناولت ثيمات مشابهة، مثل رواية نابوكوف الشهيرة «لوليتا»، إذ فحصتها عن قُرب استنادًا إلى دراستها وتدريسها للأدب. مؤخرًا صدر في فرنسا لنيچ سينو كتاب جديد هو «الريليداد» La Realidad، والعنوان على اسم قرية في المكسيك، ذهبت المؤلفة في رحلة بحث عنها. لكن لا يبدو أنها قد وصلت إليها.
صدر هذا الحوار مع الكاتبة في مجلة «لير» Lire الأدبية المُتخصصة بشهر آذار/ مارس الماضي، أجرته معها الصحافية مارغو موراسو. وهنا ترجمة له:
(*) في كتابكِ الجديد «الريليداد»، تتحدثين عن إحدى إقاماتك في المكسيك، ويسير الكتاب على خُطى عملكِ الأول «نمرٌ حزينٌ»، حيث تستخدمين أيضًا أسلوب السارد العليم لتتكلمي عن تجربتك مع ربطها بأفكار أدبية أو فلسفية عامة، فهل يُمكن وصف الكتاب بأنه سرد؟ أم مقالة أدبية؟
أُفضِّل أن أتكلم عن نوع من اللاخيال الإبداعي، شكل يتضمن المقالة، والسرد، والنقد الأدبي، ويسمح لي باللعب بالأنواع الأدبية. لا أحب استخدام مصطلح «سرد»، لأنني لا أمارس السرد بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل أتأمَّل... في الواقع، ثمة مزج بين السرد والتأمُّل، بين آليتين مُختلفتين، بين نسيجين مختلفين للنص. أبدأ بنوع من أدب الرحلة، ثم أتوقف دُفعة واحدة وأتكلم عن شيء آخر. أحبُّ هذه الانقطاعات، إنها تمنح ثراءً ما وتسمح لي بكتابة تعليق ضمني، نوع من «الميتا أدب» لا يكف الكاتب فيه عن التساؤل عن طبيعة ما يحكيه. في «الريليداد»، لم أكن أريد أن يفوت القارئ إيقاع الرحلة، ولذا فإن كتابي ينتمي إلى «الميتا أدب»، من دون أن يكون ذلك تمامًا. بالنسبة إليِّ، من المُهم الاعتراف بصعوبة السرد، بأن تأسيسه أشبه بمعجزة، وصناعته تتطلب توافر شروط محددة. الوعي بهذه الصعوبة يُعطي عمقًا للنص، وهذا يعنيني. منذ سنوات وأنا أشعر بانجذاب إلى هذا الشكل الذي يمزج الأدب بالواقع، بين المقالة والتخييل الذاتي. غير أنني أتمنى أن أتمكن يومًا من العودة إلى التخييل المحض، لأنه يبقى رغم كل شيء حُبي الأول، الذي بدأ معه مَيْلي إلى الأدب.
(*) في كتابك «الريليداد» تجعلين من المكسيك مركزًا للحركة، فهل كان بإمكانك نشره هناك؟
لم يكن لدي الوقت لأفعل، لكنني أتمنى لو يحدث هذا مستقبلًا! بعد نشر «نمرٌ حزينٌ» سألني ناشري فردريك بويه في دار نشر P.O.L إن كان لدي مشروع لكتاب جديد. أخبرته أنني كنتُ أعمل على نص آخر، لكن باللغة الإسبانية، هكذا قرأه بالإسبانية، ووجد أنه نص جيد للنشر بعد «نمرٌ حزينٌ». لأنه يختلف تمامًا عنه، وفي الوقت نفسه، ثمة جسور عديدة بينهما.
'أُفضِّل أن أتكلم عن نوع من اللاخيال الإبداعي، شكل يتضمن المقالة، والسرد، والنقد الأدبي، ويسمح لي باللعب بالأنواع الأدبية'
(*) هل يعني هذا أنكِ كتبتِ العملين في وقت واحد، أم أن «الريليداد» يسبق حتى «نمرٌ حزينٌ»؟
كتبتُ قسمًا كبيرًا من «الريليداد»، قبل «نمرٌ حزينٌ»، وكان أول نص سير ذاتي أكتبه. في الواقع، أعتقد أنه كان عن التحوُّل الذي حدث لي، عن هذا الشيء المُذِّل المُدهِش في آن واحد وهو التحدُّث عن النفس في لغة أخرى... فعلتُ أشياء لم أتخيَّلها.
لم أُرِد أن أكتب بضمير المُتكلم، بدا هذا واضحًا لي في اللغة الفرنسية. لكن حين بدأتُ كتابة «الريليداد»، حدث هذا تلقائيًا. لأسباب تقنية، حين بدأتُ كنتُ أفكر في هذا النص كمقالة عن الآخرية، عن الرحلة. ثم أدركتُ أنه من المُستحيل أن أكتب من منظور خارجي، بدأتُ أتخذ صوتًا كونيًا، وهو ما رفضته بشدة. لم أجد أمامي إلا تبني وجهة نظر داخلية، وبالتالي اخترتُ ضمير المُتكلِّم. حين أتممتُ «الريليداد»، عدتُ إلى الكتابة بالفرنسية، وشرعتُ في مطلع «نمرٌ حزينٌ» باستخدام ضمير المُتكلم، وهو ما كنتُ أحظره على نفسي تمامًا من قبل. انفتح لي الباب في لغة أخرى...
(*) نتعرّف عليكِ في شخصية الساردة، لكن تحت اسم نيتشا. هل سمح لكِ هذا الخيار بالابتعاد قليلًا عن الواقع، عن ضمير المُتكلم هذا، أم كان هذا لقبكِ في الحقيقة فعلًا؟
لا يُمكن نطق اسمي الحقيقي في اللغة الإسبانية، لذا لم يسمني أحدٌ هناك نيچ. كانوا ينادون اسمي بتصرف، كما استطاعوا... نيتشا كان الاسم الذي حظيتُ به لزمن طويل. إنه يمثل لي الفتاة التي كنتُ عليها آنذاك. استخدمتُ اسمًا مُستعارًا لصديقتي أيضًا، وهو ما خفف من ضرورة الالتصاق بالواقع مقارنة بما حدث في «نمرٌ حزينٌ». أجريتُ اختصارات، خلطتُ ذكريات... كان مُفيدًا أن أستخدم اسمًا ليس له صلة بي اليوم، حتى والقارئ يعرف أنني المقصودة.
(*) في كتابك تقولين إنك اختبرتِ شعورًا بعدم الراحة وأنتِ تغوصين في مواضيع عن الثقافة والسياسة في المكسيك، وكذلك شعورًا بالذنب لأنكِ سليلة أمة استعمارية...
في «الريليداد»، ثمة شعور عظيم باللاشرعية. أتكلِّم عن أمة ليست أمتي. ومَنْ أنا كي أسمح لنفسي بالحديث عن الآخرين؟ ولو حدث، رغم كل شيء، أن انتزعتُ لنفسي هذا الحق، فينبغي أن أفعل بحساسية كبرى، وأن أنتبه على الدوام لفكرة أنني أتحدث عن أشياء لا أعرفها. أتكلم عن الرغبة في الآخرية، لكني لا أرغب في اختزال الآخرين إلى ما لا يُمثل حقيقتهم. يبقى السؤال: كيف السبيل إلى ذلك؟ كيف أُسميهم؟ لا يُمكن استعمال كلمة «هنود»، ولا «أبناء البلد»، ولا «سُكان أصليين». ليس لدي حتى مصطلح كي أتكلم عنهم. ومسألة صعوبة إيجاد كلمة للتحدث عن شيء مُعين، قد حصلت لي من قبل وهي مزعجة للغاية. ومع ذلك، حين واجهت هذه الصعوبة، عرفتُ أنه من المهم أن أواصل المحاولة. محاولة استكشاف ما سيحدث حين أدرك أن الأسئلة التي أطرحها على نفسي إشكالية. تسمية الآخرين هو حقٌ منحه الغرب لنفسه ثقافيًا وتاريخيًا. إنه امتياز، صار مستترًا بالنسبة إلينا، أي أننا عميان عن حقيقته. نتصوَّر أن لدينا الحق في تسمية الواقع وفرض منظورنا للأشياء. جميع هذه الموضوعات التي تربط وقائع عادية جدًا في الحياة إلى أسئلة فلسفية تُثير اهتمامي بشدة.
(*) بإقامتك في المكسيك اخترتِ الثقافة المزدوجة، الموضوع الذي تتناولينه في الكتاب، وهو من بين أسباب أخرى، ما يُسرب الشعور باللامشروعية. حاليًا أنتِ في فرنسا لبضعة أشهر، كيف تعيشين هذا الازدواج الثقافي؟
أعيش صدمة ثقافية حقيقية، بوجودي في فرنسا. قضيتُ كل حياتي كبالغة في الخارج. غادرتُ وأنا في الثالثة والعشرين، والآن أنا في السابعة والأربعين. في حالٍ كهذا، لا يشعر المرء أبدًا بالمشروعية. الثقافة المزدوجة، سواء بالاختيار أو عدمه، غالبًا ما نختبرها كنوع من الهشاشة، وأجد من الغريب أن كثيرين يرونها كحظ، كثراء.
'تسمية الآخرين هو حقٌ منحه الغرب لنفسه ثقافيًا وتاريخيًا. إنه امتياز، صار مستترًا بالنسبة إلينا، أي أننا عميان عن حقيقته'
هي كذلك أيضًا، لكن في النهاية يحضر بقوة سؤال «من هنا أم من هناك؟». هذا بدوره سؤال أطرحه على نفسي، وأرغب في استكشافه، لأن ابنتي مولودة في المكسيك لوالدين فرنسيين. هي لم تختر الثقافة المزدوجة، وأقول لنفسي إنه خيار غريب من ناحيتنا أن جعلناها تعيش هذا.
(*) من اللافت للانتباه في كتابك هذه الفقرة التي تتحدثين فيها عن اللقاء الدولي لنساء يُناضلن، في مدينة تشياباس. ما هي علاقتك بالنسوية؟
اكتشفتُ النظريات النسوية، التي ألتهمها اليوم كالجميع، متأخرًا جدًا. بالتأكيد أرى نفسي نسوية، لكنني اكتشفتُ النسوية في المكسيك. أنا نسوية على طريقة أميركا اللاتينية، وهذا غريب إلى حد ما. حين غادرتُ فرنسا عام 2003، لم أكن على صلة حقيقية بالنضالات النسوية. قرأتُ «نظرية كينغ كونغ» كتاب ڨيرجيني ديبانت الذي ترك أثرًا عليِّ، وكان يُمكن أن يلعب دور الجسر لي، أو أن أبحث عن كل الكُتب التي ذكرتها ڨيرجيني، كما فعل كُثرٌ، لكن هذا لم يحدث لي للأسف. تكويني بين المجموعات النسوية حدث في المكسيك، في مرحلة متأخرة نسبيًا، وسط دوائر بعينها، تربطني بها علاقات شخصية في الأساس. ليس لدي تكوين حقيقي، على المستوى النظري، لكني مارستُ نشاطًا نضاليًا على الأرض... صرتُ مرافِقة للنساء المُجهِضات، بمحض الصدفة... كما أقول عن نفسي دائمًا، أنا تابِعة، الكلمة ليست سلبية بالضرورة، بل تُشير أساسًا إلى فعل المراقبة. مثل عديد من الأشخاص الذين يكتبون.
(*) حدثينا قليلًا عن خياركِ بتسمية كتابكِ الجديد «الريليداد»، والكلمة بالإسبانية تعني الواقع؟
إذا اطلعنا على تعريف الكلمة في القاموس، فسنجد أن الواقع «هو المُتخيَّل، وهو الباطل». هذا مُدهش، لأنني أعتقد أن المُتخيَّل هو أيضًا واقع! منذ وقت طويل وأنا أتساءل إلى أي نوع من الواقع تنتمي التجارب التي نعيشها في الأدب، فلا يُمكن القول إنها غير حقيقية. هذه الأسئلة تبدو لي مهمة جدًا وحيوية أيضًا، منها يتشكَّل نسيج حياتنا جميعًا. الحياة الافتراضية بدورها فرضت علينا مستوى آخر من الواقع... كيف نتصرف إذًا بحيث نعثر على وجهتنا في الحياة، وكي نتوافق مع كل هذه الأشكال من الواقع التي نتكوَّن منها؟ أمَّا عنوان الكتاب، فلم يكن محل سؤال. أظن أن اسم هذه القرية أنتج حتى طريقة تشكُّل فصول الكتاب. محاولة الوصول إلى قرية تُسمى «الواقع»، بدت لي ذات دلالة كبيرة، وإذا بي إزاء باب يُفضي إلى مسألة فلسفية للغاية ومَرِحة بدرجة ما. سعيتُ إلى تحقيق خفة ما، فأنا أعرف نفسي صعبة قليلًا، مأخوذة إلى الأسئلة العميقة، غير أنني أحب أن تنطوي كتابتي على شيء من المسافة.
(*) ما الآثار الأدبية التي ترتبت عليكِ بعد النجاح المدوّي لكتابكِ 'نمرٌ حزينٌ'؟
حتى الآن، لستُ أعرف على نحو دقيق، لم يمض وقتٌ طويل بعد. من جانب، حين نؤلف كتابًا، فنحن نتمنى أن يقرأه أكبر عدد ممكن من الناس، لا سيما كتاب مثل 'نمرٌ حزينٌ'. أردته أن ينفجر كقنبلة. لكن من جانب آخر، ظل جزءُ مني يتساءل: ماذا سأفعل، إن وقع هذا الانفجار، كيف سأواصل مشوار الكتابة من دون أن يُصبح هذا التأثير قوة قامعة؟ من دون أن أٌصنَّف في خانة مُعينة؟ لفترة طويلة عشتُ عيشة كاتب السرّ أو المجهول، وهي حالة ليست عظيمة لأنها لا تسمح بتحقيق دخل مادي من الكتابة، في غياب القراء، غير أنها توفر الشعور بالاستقرار والنظام. على مستوى الإبداع، تمتعتُ بحُرية كبيرة. ماذا سأفعل اليوم كي أبقى حُرّة كما كنتُ من قبل؟ لا إجابة عندي بعد. على أي حال، أن يُقرأ كتابي أو ألا يُقرأ هي مسألة خارجة تمامًا عن إرادتي. أجيدُ فقط، تأليف أفضل كتاب ممكن، صياغة أفضل عبارة ممكنة، في كل لحظة أعمل فيها.