ليبيا... الهدوء الحذر يخيم على طرابلس رغم اتساع دائرة التحشيدات المسلحة

طرابلس - تشهد العاصمة الليبية طرابلس ومحيطها توترًا متصاعدًا على خلفية تحشيدات عسكرية متبادلة بين عدد من التشكيلات المسلحة في البلاد، بحسب سبوتنيك.

وتزايدت في الأيام الأخيرة حركة الآليات الثقيلة وانتشار السيارات المسلحة في مناطق حيوية داخل المدينة، ما أثار مخاوف من اندلاع مواجهات جديدة. ويأتي هذا التصعيد في ظل غياب توافق سياسي واضح، وتنامٍ للصراع على النفوذ والموارد.

تحشيدات وتعقيدات

قال الأكاديمي والمحلل السياسي الليبي إلياس الباروني، إن 'التحركات والتحشيدات العسكرية الأخيرة التي تشهدها العاصمة طرابلس ليست إلا انعكاسًا لحالة الانفلات الأمني المزمن الذي أصبح جزءًا من الواقع الليبي، والذي سئم منه المواطنون على امتداد البلاد، نتيجة تكرار الأزمات وفشل الحكومات الليبية المتعاقبة في التعامل الجاد مع ظاهرة التشكيلات المسلحة، وانتهاكاتها المستمرة بحق المدنيين وحقوق الإنسان'. وأضاف أن 'حكومة الوحدة الوطنية الحالية حاولت في إطار إدراكها لخطورة هذا الوضع اتخاذ خطوات لإنهاء هذه الظاهرة، إلا أن محاولاتها ظلت محدودة وغير كافية'.

وأوضح الباروني في حديثه لـ'سبوتنيك'، أن هذه 'التشكيلات أصبحت تمثل تهديدًا مباشرًا لمؤسسات الدولة، حيث تتجاوز سلطاتها مؤسسات الدولة الشرعية، ولا تخضع لسلطة تنفيذية واضحة'.

وأكد أن 'الحكومة حاولت الدفع باتجاه تأسيس جيش وطني حقيقي يتمتع بالكفاءة والانضباط ويخضع للسلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية'، لكنه شدد على أن 'هذا المسار يصطدم بتعقيدات الواقع، الذي تهيمن عليه جماعات مسلحة متعددة الولاءات، لا تعترف بالسلطة المركزية، وتتحرك بدوافع محلية وأحيانًا بإيعاز من أطراف خارجية'.

وأشار الباروني إلى أن 'التحركات العسكرية الأخيرة لا يمكن وصفها بالمفاجئة، بل هي نتيجة مباشرة لحالة الانقسام السياسي العميق بين الحكومتين القائمتين في شرق وغرب البلاد، وما يرافقه من تضارب في المصالح بين التشكيلات المسلحة التي تتنازع على النفوذ والسيطرة على الموارد الاقتصادية والمالية'.

وبيّن الباروني أن 'هذه التشكيلات تتسابق للسيطرة على مواقع استراتيجية مثل الموانئ والمطارات والمقار الوزارية، بالإضافة إلى مؤسسات مالية مهمة مثل مصرف ليبيا المركزي، بهدف ضمان مصادر تمويل دائمة تعزز قوتها على الأرض'.

وأضاف أن 'هذه التحركات عادة ما تُستخدم كرسائل قوة واستعراض للنفوذ، سواء من جانب الحكومة أو من قبل بعض التشكيلات المسلحة التي تسعى لإظهار جاهزيتها للرد أو المبادرة'.

لكنه حذّر من أن 'هذه التحشيدات، وإن لم تتحول بعد إلى مواجهات مباشرة، فإنها تشكل خطرًا حقيقيًا على المدنيين، خاصة مع تصاعد الخطاب التحريضي في وسائل الإعلام التابعة للتشكيلات، وظهور مؤشرات ميدانية مثل انتشار نقاط التفتيش غير الرسمية، وإخلاء بعض المقار الأمنية الحساسة، بالإضافة إلى أنباء عن نقل أسلحة ومعدات من وإلى العاصمة'.

وأكد الباروني أن 'حكومة الوحدة الوطنية، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، تجد نفسها في موقف معقد للغاية، فهي من جهة تعتمد على بعض التشكيلات المسلحة لحمايتها، ومن جهة أخرى عاجزة عن فرض سيطرتها على كافة هذه الكتائب التي تنتمي إلى مدن ومناطق قوية. كما أن الحكومة تحاول الحفاظ على توازن هش بين هذه القوى المسلحة، بدلاً من بناء جهاز أمني مركزي موحد وقوي قادر على فرض الأمن، مما يضعف قدرتها على إدارة المشهد الأمني بشكل فعّال'.

ونوّه الباروني إلى أن 'سكان العاصمة طرابلس يعيشون في حالة من القلق والترقب، في ظل غياب أي ضمانات تمنع اندلاع الاشتباكات، وهو ما انعكس سلبًا على الحركة الاقتصادية التي تشهد ركودًا ملحوظًا'. وأشار إلى أن 'هذا الركود، إلى جانب الهلع الشعبي، يشير إلى احتمال حقيقي باندلاع صدامات مسلحة، في حال فشلت محاولات التهدئة والمفاوضات بين الأطراف المتصارعة'.

ورأى أن 'ليبيا لا تزال تدفع ثمن غياب الدولة المركزية، وضعف مؤسساتها الأمنية، واستمرار تفكك النسيج الاجتماعي'، محذرًا من أن 'هذه السيناريوهات المؤلمة قد تتكرر ما لم يتم العمل على تنفيذ رؤية شاملة للحل'. وشدد على أن 'الحكومة لا تستطيع بمفردها معالجة هذه الإشكاليات المعقدة، ما لم تتوفر بنية تحتية سياسية وأمنية واجتماعية متماسكة، إلى جانب دعم دولي وإقليمي فعلي، يُسهم في إنهاء الانقسام السياسي، وتفكيك التشكيلات المسلحة بشكل تدريجي ومدروس، ووضع جميع الأجهزة الأمنية تحت سلطة وزارتي الدفاع والداخلية فقط، في إطار عملية إصلاح شاملة'.

ترقب مستمر

من جهته، قال المحلل السياسي الليبي معتصم الشاعري، إن 'ما يجري في العاصمة طرابلس يأتي في إطار الترتيبات العسكرية التي يشرف عليها المجلس الرئاسي'، مشيرًا إلى أن 'التحركات الحالية لا تعني بالضرورة أن هناك حربًا وشيكة، بل تهدف بالأساس إلى الحفاظ على استمرار الهدنة بين الأطراف المتصارعة داخل العاصمة'.

وقال الشاعري في تصريح خاص لـ'سبوتنيك'، أن 'جميع الأطراف المتواجدة في طرابلس تعيش حالة من الترقب والحيطة، حيث يساورها القلق من أي تحرك مفاجئ من الطرف الآخر، إلا أن المشهد حتى الآن، لا يشير إلى وجود نية حقيقية للاشتباك أو اندلاع مواجهات مباشرة'.

وأضاف أن 'هناك بالفعل من يسعى إلى إشعال فتيل الحرب، لكن الهدوء لا يزال قائمًا، في ظل استمرار المجلس الرئاسي في عقد اجتماعات متواصلة مع قادة التشكيلات المسلحة ورئاسة الأركان، بهدف تثبيت وقف إطلاق النار واحتواء أي توتر محتمل'.

وعن موقف حكومة الوحدة الوطنية، أوضح الشاعري أن 'الحكومة قدّمت مجموعة من المقترحات لتهدئة الوضع، ومن بينها ملفات حساسة مثل ملف السجناء، وهو ما لاقى قبولًا مبدئيًا من بعض الأطراف المسلحة'.

ومع ذلك، يرى الشاعري أن 'الحكومة لم تظهر حتى الآن موقفًا استباقيًا قويًا لاحتواء الأزمة بشكل شامل، باستثناء التنسيق الجزئي مع الكتائب التابعة لها من أجل وقف التصعيد'. وأكد أن 'الحكومة لا تزال ملتزمة بوقف إطلاق النار، وتسعى إلى الحفاظ على حالة الاستقرار، ولو بالحد الأدنى'.

وأشار إلى أن 'القلق الشعبي داخل العاصمة طرابلس يتكرر مع كل توتر أمني'، موضحًا أن 'سكان المدينة يعانون من مخاوف حقيقية ناتجة عن تجارب سابقة شهدوا خلالها اشتباكات عنيفة، وما ترتب عليها من خسائر بشرية ومادية، إلى جانب حالة الرعب وعدم الاستقرار التي رافقت تلك الأحداث'.

وأكد أن 'هذه الهواجس المجتمعية تتجدد كلما ظهرت مؤشرات على تحركات عسكرية أو توتر بين التشكيلات المسلحة'، مؤكدًا ضرورة أن 'تتحرك جميع الأطراف بشكل مسؤول، وأن تضع مصلحة المدنيين واستقرار العاصمة فوق أي اعتبارات سياسية أو ميدانية'، مشددا على أن 'أي صدام جديد ستكون له تداعيات كارثية، ليس فقط على طرابلس، بل على كامل المشهد الليبي المعقّد أصلًا'.