اخبار اليمن
موقع كل يوم -شبكة الأمة برس
نشر بتاريخ: ١٨ أيلول ٢٠٢٥
حسن داوود*
بما هو مزيج من تقديم لروايته وكلمة إهداء تتقدّمها كتب سمير يوسف نصّا شعريا عن أبيه العاشق للطبيعة. يتخيّله خارجا في الصباح حاملا بندقيته ذات السبطانة الطويلة، المزيّنة بزخرفات فضية مشغولة بعناية بالغة، ترجع إلى عصر صناعي بائد. ينزل الأب إلى الوادي الذي ذاب الثلج المتراكم على ترابه، ويبدأ بانتظار أسراب البطّ. لن يطلق النار عليها عند ظهورها، لأن قلبه لا يطاوعه على القتل، فيلستعض إذن عن إطلاق النار بتأمّل الجمال.
أما الرواية التي سبق البدءَ بها تمهيدٌ من الراوي، وربما كان هو نفسه الكاتب، عن انتدابه، كصحافي، لتغطية حادثة حريق حدثت في قرية في منطقة باردة من فرنسا. وقد ذهب إلى هناك اهتدت مجموعة من أصحاب الأموال إلى إمكان تحويل القرية الجميلة الوادعة، إلى بلدة تكنولوجية على غرار السيليكون فالي. لم يتأخّر هؤلاء في التنفيذ. لم ينتظروا موافقة الأهالي الذين لم يصمد أكثرهم أمام إغراء المال. فقط مجموعة قليلة رفضت الموافقة على ذاك المشروع، قادها رئيس البلدية توماس، الذي يريد للقرية أن تكون جميلة كما هي، كما نمت ببطء مع عيش ساكنيها، لكن ما لبث مخطّطو المشروع أن تدبّروا أمر الحصول على التصاريح اللازمة، مستخدمين لذلك كل ما يلزم، بدءا بالتهديد، ثم بالخطف والاعتداء الجسدي، وتوسيخ السمعة عبر وسائل الإتصال، ثم بالقتل الذي ذهبت ضحيته آري الفتاة المندفعة لحماية البيئة من الاعتداء. كل ذلك، في نهايته أو في إبّانه، دفع توماس رئيس البلدية، إلى إحراق المنطقة مع كل الآليات والإنشاءات، التي كانت قد بدأت العمل على تدمير القرية.
الرواية، أو النوفيلا، تندرج أحداثها القانونية والاجتماعية، على شاكلة ما في الكتابات والأفلام السينمائية، عن المواجهات بين محبّي الطبيعة من جهة والعالم الرأسمالي غير المكترث بتدميرها من جهة ثانية. لم تسعَ الرواية إلى إثبات شيء جديد على ما جرى طرحه في تلك الأعمال السابقة، لكننا هنا إزاء مواجهة تتعدى حدثيّة ما يُروى إلى فضح السلوك البشري العام، الذي أخضعه التغيّر القسري والمصلحي للعالم.
لا غرو في أن أصحاب المشاريع، التي بلغ بعضها من الضخامة حدّ أن تكون الورشة الواحدة منه في حجم مدينة، قد عملوا على تسويق مفاهيم جمالية بديلة عن تلك التي كانت سائدة من قبل. من ذلك مثلا إيجاد صيغ وأفكار جمالية لوصف الازدحام المديني وارتفاع الأبنية المبنية بهندسة المكعّبات، وتحويل الجمال والموضة، التي مع هيمنة عمليات التجميل، أنشأت معادلات مشتركة للتعرّف إلى الجمال، وتتبع تلك الجراحة التجميلية ومستحضرات التجميل والممارسات الرياضية العائدة كلها إلى نظام اقتصادي قائم بذاته. هو التنازع بين الجميل والقبيح، ما تسعى الرواية إلى نقله. تقول إيلينا لحبيبها توماس أنها تعرف أن مفاهيم الجمال ومثالاته تغيّرت، فلم يعد الجميل مقتصرا على ما ظلّ يعتبر كذلك في وعينا منذ العصور القديمة. هي تذكّر توماس بجمال الجسم البشري وكماله، كما جرى نحتُه أيام اليونان، لكنها تعرف أيضا أن الفن تخلّى عن الجمال كغاية نهائية، مذكّرة إياه بقبح العجوزين لفرانشيسكو غويا، أو كازيمودو في «أحدب نوتردام»، كما تذكرّه بفيكتور هوغو الذي قدّم وصفا جميلا للوحشية.
هنا في الرواية، لسنا إزاء الدفاع عن الجمال، بل إزاء الاستعداد للقتال في سبيله، في المواجهة بين رافضي المشروع والعاملين على تحقيقه بالقسر، دفع الأوّلون أثمانا باهظة. قُتلت أري وأصيب ماكس مساعد رئيس البلدية، بطعنات قضى بسببها أياما في المستشفى، وكاد رئيس البلدية هو نفسه يموت تحت التعذيب. كان أعداؤهم كثيرون ونافذون، على نحو ما نشهد في الأعمال المماثلة الموصوف عنها أعلاه، لكن هؤلاء سينهزمون في نهاية المطاف، لأن انتصار الضعفاء هو الذين سيعطي الرواية معنى لكتابتها، فقط لكونه على الضد من الخواتيم الطبيعية للأحداث المماثلة. وإلا، لو لم يكن ذلك هو المجرى العادي للأمور، لظل عالمنا الطبيعي كما هو، ولما أوصله الجشع البشري إلى التردي الخطر الذي بلغه.
كثيرا ما عدت إلى قراءة المعلومات المتعلقة بالرواية، لأعرف إن كانت قد كتبت بلغة غير العربية. لا ذكر لمترجم ولا عنوان لها بلغة أخرى، هذه التي ستكون اللغة الفرنسية، فالكاتب، كما هو مذكور في التعريف به على الغلاف، لبناني ويكتب باللغتين. ما انتهيت إليه في ما يتعلّق بذلك هو أن الكاتب كتب بالعربية رواية فرنسية. أقصد بذلك المكان الذي جرت فيه أحداثها، وأسماء الشخصيات فيها، وكذلك موضوعها وقضيّتها، ذاك أن العالم العربي الذي تعصف به حوادث تهدّد بزلزلة أركانه، ما يزال بعيدا جدا عن أن تجري فيه وقائع مماثلة. وهناك احتمال آخر هنا، هو أن الرواية الصادرة هنا هي النسخة العربية لرواية كتبت لتصدر بلغتين.
*رواية «غابة» لسمير يوسف صدرت عن دار نوفل في 152 صفحة- سنة 2025.
*كاتب لبناني