اخبار اليمن
موقع كل يوم -شبكة الأمة برس
نشر بتاريخ: ٢٢ أيار ٢٠٢٥
نجيب التركي
عن دار عناوين بوكس بالقاهرة، صدرت رواية “مِعْلامة” للكاتب والشاعر اليمني علوان مهدي الجيلاني، في طبعتها الأولى خلال عام 2024. تأتي هذه الرواية بوصفها العمل السردي الثاني للكاتب بعد روايته الأولى “أورفيوس المنسي”، وتتحرّك في فضاء زمني يمتد من أوائل السبعينيات حتى أواخر الثمانينيات. ويُعد الجيلاني من الأصوات الثقافية البارزة في المشهد اليمني، حيث جمع في مسيرته بين الشعر، والتحقيق التراثي، والكتابة الصوفية.
“تلقّي الأعمال الإبداعيّة ثم التعبير عن آرائنا فيها؛ أمر لا يقبل التوجيه ولا يقبل الوصاية.”
– علوان مهدي الجيلاني
بهذه الجملة، يرسم علوان حدود العلاقة بين الكاتب والقارئ. لا سلطة للكاتب بعد النشر، ولا سلطة للقارئ قبل القراءة. بين الحبر والنبض، ينشأ النص بوصفه كائنًا حيًّا، لا يطلب إعجابًا، بل إصغاء.
مدخل: الكتاب الذي لا يُجنّس
رواية؟ سيرة؟ يوميات؟ ليست مَعْلامَة أيًّا من ذلك تمامًا، لكنها جميعها في آنٍ واحد. هذا التفلّت من التجنيس لا يُعدّ فوضى فنية، بل تخييرٌ شكلاني واعٍ، من كاتب لم يسعَ إلى بناء رواية تقليدية بقدر ما أراد توثيق أثر، وترك أثر لغوي ووجداني لا يُقاس بمعايير السرد المعهودة.
نحن أمام كتاب ذاكرة، لا تكتبها الذاكرة بقدر ما تستدعيها، وتعيد ترتيبها في دفاتر الطفولة، الأم، الأب، المكان، اللغة، الحكايات، والماء الذي مرّ من بين الأصابع.
العنوان: المَعْلامَة بوصفها كشفًا
في ظاهرها، مفردة محليّة. وفي باطنها، مدلول يقارب “العلامة”؛ ما يُترك على الجسد من أثر لا يزول. فهل هي علامة في الذاكرة؟ أم على الجسد؟ أم على الزمن نفسه؟
اختيار الكلمة عنوانًا ينقل النص من العام إلى الخاص، ومن الأدب المترجم إلى المعجم المحكيّ، ويؤسس منذ الغلاف لهوية لا تريد أن تُفهم، بل تُعاش.
الغلاف: الطفل الذي يسكن الحكاية
الصورة اليدوية على الغلاف، لطفلٍ يرتدي زيه التقليدي، يمشي بخطى ثابتة في طريق تحفّه بيوت قشّية، تضعنا مباشرة في جغرافيا النص. لا مدينة هنا، بل ريف. لا قهوة ثقافية، بل “موقد” و”صُميل” و”جَمَنة”. التفاصيل تعبّر عن عمق الانغماس في بيئة سردية ترفض التبرّج، وتختار الانكشاف العفوي.
السرد: حيث اللغة تنسى أنها لغة
اللغة في مَعْلامَة ليست أداة، بل رفيق قديم. رفيقٌ لا يتزيّن، بل يمشي إلى جوارك في الدرب الترابي. لا تتكلف الفصحى إلا قليلًا، وتدع العامية تنبت في النص كما تنبت الحشائش البرية بعد المطر.
الكاتب، رغم شاعريته المعلومة، قرر أن يتخلّى عن المجاز، ليكتب كمن يهمس بقصته في أذن حفيدٍ صغير، لا كمن يروي رواية لجوائز أو مهرجانات. أحيانًا يشرح بعض المفردات، وكثيرًا ما لا يفعل، كأنه يقول: “هذه لغتي، خذها كما هي، أو مرّ بها مرور الغريب.”
اللغة عادية، واضحة، لكنها ليست دائمًا كثيفة، ولا تسعى إلى التوتر الشعري أو التصعيد الفني، وهو ما يجعلها سهلة النفاذ، لكنه أيضًا يجعلها في لحظات معينة تفتقد الدهشة.
الشخصيات: “أنا” الراوي ومرآة الوجوه
البطل “علوان” الطفل هو المحور، لكنه لا يروي كطفل. يروي كصوت يتداخل فيه الراوي، والشاعر، والطفل. من حوله الأب، الأم، الجدة، السيّد، العم، وغيرهم.
لكن الشخصيات الثانوية تفتقر للتطوّر، ولا تُمنح عمقًا كافيًا. فهي تظهر بوظيفة أكثر من كونها كيانات مستقلة، وتخدم الحكاية باعتبارها خلفية لحضور الكاتب لا شركاء له في الرحلة.
المكان: البطل الحقيقي
المكان هو المَعْلامَة الحقيقية. هو الشخصية الأقوى في الرواية. الطين، الجبال، الأصوات، المواسم، المعتقدات، الموالد، والجنائز. الهواء الذي لا يُفلتر، الأطعمة، الأصوات، الأسماء، كل ذلك ليس مجرد خلفية، بل مادة روحية تُشكّل الطفل الذي يروي، وتؤسس لنشأته العاطفية والفكرية.
هذا الانغماس الكامل في الطفولة اليمنية، بجغرافيتها ولهجتها وثقافتها، يجعل من الرواية وثيقة وجدانية عن الريف اليمني في السبعينيات والثمانينيات.
الزمن: تقافز لا تسلسل
الرواية لا تتبع تسلسلًا زمنيًّا، بل ذاكرة تتقافز في خمسة وثلاثين فصلًا، كل فصل يحمل عنوانا مستقلا. الطفولة ليست ماضيًا، بل حاضر داخليّ حيّ. الزمن هنا لا يتحرّك للأمام، بل يرتدّ ويتشظى ويتذكّر. وهذه القفزات، تعكس طبيعة التذكّر لا طبيعة التوثيق.
التوتر الغائب
لم يستثمر الكاتب كثيرًا في عناصر البناء الروائي التقليدي: لا عقدة، لا ذروة، لا حبكة مشدودة. وقد يكون هذا تمردًا واعيًا على البنية الكلاسيكية، لكنه في المقابل جعل الرواية أقل ديناميكية سرديًا، وأقرب إلى التأمل الحنينِي منها إلى التشويق الروائي.
الرمزية الصوفية: طيفٌ لا يكتمل
تتخلل الرواية إشارات صوفية، لا كمنهج، بل كروحٍ حاضرة في العلاقة مع الطبيعة: في نظرة الطفل للحياة، في محبته للمكان كما يُحبّ الأولياء الله. لكنها رمزية غير مفككة، تمر كإيماءة لا كرمز متكامل، وكان بالإمكان تعميقها أكثر.
لماذا نقرأ “مَعْلامَة”؟
قد لا نقرأها بحثًا عن الإثارة، أو عن معمارٍ روائي متقن، بل عن صوت. صوت يريد فقط أن يُسمع، ويترك فينا أثرًا. وهذا الأثر هو جوهر الأدب.
رواية مَعْلامَة نابعة من قلب لا يزال ينبض بتراب القرية. وربما، في زمن الروايات المتكلفة، تظل مثل هذه الأعمال شهادة حنين، ودرسًا في أن الكتابة، أحيانًا، لا تحتاج لأكثر من وجعٍ صادق وذاكرةٍ حيّة.
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية 'راي اليوم' مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع للدعم: