لجلال برجس : المدينة الفاضلة والإنسان المأزوم في «معزوفة اليوم السابع»

عماد الضمور*

يستمر جلال برجس في ترسيخ مشروعه الروائي وذلك بإصداره «معزوفة اليوم السابع» الصادرة حديثا عن دار الشروق في القاهرة، وبطبعة أردنية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، حيث تكشف الرواية عن اتّساع معرفي، ووعي حقيقي للمثقف القادر على تجاوز إحباطات الواقع، وتجسيد فترات مختلفة من التجربة الإنسانية، وراء حدود الزمان والمكان المؤطر بمرحلة محددة. إذ يلمس القارئ لروايات جلال برجس أنه كثيرا ما تحدث عن الواقع المنحرف، والتشوهات التي أنهكت الحياة الإنسانية. وهو في رواياته يرسم لوحات فنية ذات أبعاد مشهديّة تمتلك كثافة تعبيريّة وقوة تأثيريّة واضحة، يقتنص اللحظة الإبداعية؛ ليلتقط فكرة ما تنبني عليها الرواية، وكأنه يذهب بعيدا إلى عوالم تحقق دهشة التلقي، وقوة الفكر معا.

انحاز جلال برجس في «معزوفة اليوم السابع» إلى القيم الإنسانية الرفيعة، وذهب إلى رواية تحتفي بالإنسان بجوهره الإنساني الفطري بعيدا عن ملوثات الحضارة المادية، وهو من ناحية أخرى انعطف بالرواية الأردنية إلى هذا المستوى الثقافي المعرفي الخصب بعيدا عن صراعات أيديولوجيّة ضيقة. تبرز الرواية ثيمة الوجود الإنساني وخطر الانكسار والفناء القيمي الذي تواجهه البشرية في ظل تحولات سياسية وأوبئة وحروب ومدّ تكنولوجي جارف، فنجد الرواية تتحدث عن مدينة افتراضية تُحيل من خلال أحداث غرائبية إلى هواجس تتضمن افتقاد الإنسان الافتراضي للمشاعر والعواطف، حيث القلق من الموت بسبب الوباء، الذي اجتاح أحياء المدينة الافتراضية، فكان الخوف من الفناء مسيطرا على شخوص الرواية في ظل تراجع القيمة الإنسانية والصراعات التي تحياها البشرية في المجالات كافة. يقيم الروائي حوارا صريحا بين العنوان والنص، مؤكدا فكرة الرواية التي تقوم على ما ألت إليه البشريّة في ظل صراعاتها المتعددة، إذ تتوزع مفردات العنوان وفق بنية دلاليّة واضحة في ثلاثة حقول: الحياة ماثلة بالمعزوفة، والزمن ممثل باليوم، والعدد ماثل بالسابع. تبدو الحياة مع هذه الحقول لا قيمة لها دون زمن يحتضنها، ويُكسب الناس أهمية الاستمرار فيها، وفي الوقت نفسه لا قيمة للمعزوفة، دون زمن تنبثق منه، وإذا كانت المعزوفة تعني الكينونة، فإن اليوم هو سرّ وجودها وصولا إلى العدد (السابع) وهو الفرصة الأخيرة لاستمرارية الحياة، وكأنه إنذار أخير للبشرية بضرورة الالتزام بالمبادئ والقيم الإنسانية الرفيعة. يتمثل جلال برجس في روايته رسالة الأدب الخالدة ببعدها الإنساني، وفكرها الملتزم؛ فهو ينظر إلى الأدب بوصفه ميراثا إنسانيّا نسمو به، ونبثه رؤى عميقة. فبعيدا عن الحروب والأوبئة، وبعيدا عن خطاب العنف والكراهية والتطرّف الفكري يمكن أن نلتقي لقاء حضاريّا معرفيّا مهما، وهذا ما أكده جلال برجس في مجمل تجربته الإبداعيّة.

تكشف لنا «معزوفة اليوم السابع» مدى قدرة الرواية على استيعاب أحداث البشرية، وصياغتها في فكرة روائية تستند إلى حواريّة إنسانية تنثال فيها المعلومات والثقافات والعقائد والأساطير، باحثة عن معرفة حقيقية، ومبرزة شغفا واضحا للإجابة عن أسئلة الكينونة والمجتمع الإنساني الذي يحتفي بالعقل والحبّ والمعرفة ويجعلها وسيلة للخلود الإنساني. ينتصر جلال برجس في روايته للإنسانية بإدانة ما يفعله الإنسان المعاصر بنفسه في ظل سيطرة التكنولوجيا على حياته، إذ تجاوز الروائي وظيفته في سرد الأحداث إلى التعبير عن كليّة الواقع، بمحاولة إعادة إبداعه من جديد برؤى إنسانية، والبحث عن حلول لما يواجه الوجود الإنساني على امتداد عصوره. يرصد متلقي الرواية تكثيفا واضحا لأدب الرؤيا، الذي تجري أحداثه في عالم النوم والحُلم، إذ يتشظى فيه الزمن منفتحا على أنساق ثقافية ذات دلالات مختلفة، تُحيل إلى الواقع أو المستقبل المأمول، إذ عمد جلال برجس إلى البعد العجائبي قناعا لنقد الواقع وبيان إخفاقاته، في ظل ما تحياه البشرية من حروب وفتن وانقسامات؛ فالأدب العجائبي «يجمع الخيال الخلاق مخترقا حدود المعقول والمنطقي والتاريخي والواقعي، ومخضعا كلّ ما في الوجود من الطبيعي إلى الماورائي لقوة واحدة فقط: هي قوة الخيال المبدع المبتكر، الذي يجوب الوجود بإحساس مطلق بالحرية المطلقة». إنّ فن التخييل والجمال والرؤى ذات علائق متعددة في الرواية، إذ استطاع جلال برجس بث روح جديدة في روايته، وحياة أخرى موازية للحياة الواقعية، من خلال تلك المنامات التي تراها شخوص الرواية في منامها، خاصة ما يتعلق منها بشخصية (باختو) التي طالما تعلقت بالمخطوط والجد الأول الذي بقي سادنا لميراث الإنسانية، وحافظا لسرّ وجودها.

تنبئ أحلام المنام بالخراب الذي سيحل بالبشرية، وما يمكن أن تواجهه أحياء مدينة الجد الأول من تحوّل في القيم، وزوال للمحبة الإنسانية؛ لذلك فإن هذه المنامات التي تراها شخصيات الرواية هي أحد ممكنات السرد في الرواية ، وقوة موجهة لرؤاها الفكرية، وهذا أبرز أهمية انفتاح البنيات النصيّة في الرواية على هموم الإنسانية ومعاناتها المستمرة. لقد شكّل مجتمع الغجر مكانا مركزيّا في الرواية؛ إذ تشكلت صورة الغجر بمستويات إنسانية ذات أبعاد اجتماعية وسياسية وثقافية، وروحيّة، سلطت الضوء على معاناتهم الإنسانية الكبيرة، من خلال عمق تصويري لحياة الغجر، وفق قواعد ودلالات رمزية يشتبك معها القارئ في الرواية.

تكتسب «معزوفة اليوم السابع» دهشة مغلفة بتراجيديا واضحة في رحلة البشرية، بحثا عن أسباب استقرارها وتساويها في الحياة بعدما تساوت في الموت، حيث يستحضر مشاهد الوباء الذي اجتاح المدينة، فضلا عن الحروب، والصراعات التي تُضاعف من فعل الموت. لكن أهم ما يُميّز جلال برجس في روايته هو محاولته استعادة الوجه الإنساني المشرق للبشرية والحالم في الوقت نفسه، من خلال بناء سردي تتناسل فيه الحكايات بكلّ فانتازيّة، وكأنه يحاول رسم صورة جديدة مستقبلية لعالم غارق في كوابيسه، وعجائبيته. طائر أبيض أسطوري، ومخطوط عتيق، وناي ُملهم ممكنات مهمة للسرد في الرواية، أعادت للمدينة عافيتها، وللإنسان كرامته المسلوبة، إذ تشكّل الفانتازيا في الرواية مقوما مهما للسرد، وعاملا لنمو الصراع في الرواية من خلال فكرة المرايا التي لا تظهر فيها صورة مَنْ ينظر إليها، بل تظهر النسخة الشبحية المثيرة للرعب، حيث فقدت الشخصيات توازنها، ودخلت في حالة صراع مرير مع نفسها، وصولا إلى حقيقة صادمة وهي طلب الموت بعد هذا الخواء الفكري والضياع المخيف. أدخل جلال برجس نفسه في مهمة شاقة عند محاولته بناء مدينة فاضلة، يمكن أن تحياها البشرية، إذ قام باستدعاء التاريخ وتدوينه بلغة الرواية وتقنياتها الفنية، والبحث في سياق ذلك كلّه عن تفاصيل تربط شخصيات الرواية بفكر أجدادها.

أسئلة الرواية هي التي صاغت حبكتها المتماسكة، إذ بقيت معلّقة في صفحات المخطوط العتيق، وبين جناحي الطائر الأبيض، وفي ثقوب الناي الباعثة للحرية والسلام، لكن الروائي أجاب عليها في نهاية الرواية ؛ لتنبثق الحقيقة الكامنة بضرورة المساواة الإنسانية، حيث يؤدي صوت الناي مفعولا سحريّا في القضاء على الوباء، وتصبح وصايا الجد الأول التي خطها في مخطوطه العتيق راسخة بين أحفاده في المدينة، ويظهر الطائر الأبيض الذي بين عينيه نقطة مضيئة زرقاء، فيبدد ظلام الفرقة والانقسام، ومع ذلك بقي القلق على مصير البشرية مرافقا للرواية منذ بدايتها إلى نهايتها. منعطف سردي مهم جسّدته الرواية وهو كشف سرّ الطائر الأبيض الذي طالما أرهق تفكير بطل الرواية ( باختو)، وهو طائر خرافي أطّر فصول الرواية، وأدخلها في بُعد تخييلي مدهش يُحيل إلى أثر واقعي مرتبط بمدينة وسكان يبحثون عن الخلاص من معاناتهم.

ثمة مفاهيم فكرية حاولت الرواية ترسيخها في ذهن المتلقي كالحبّ، والإنسانية، والمساواة، وهي في الوقت نفسه مصطلحات حاول من خلالها جلال برجس التصالح مع واقعه بعيدا عن حالة النزف العاطفي التي تحياها شخوص الرواية.

لقد استلهم جلال برجس أوجاع البشرية في العالم وتساءل عمّا يمكن أن يحدث للإنسان مستقبلا في ظل ما يشهده من تحولات عميقة ومربكة في الوقت نفسه، فقد بدأت الرواية برجل طيب حكيم لجأ إلى الكهف بحثا عن الاستقرار والأمان، برفقة فتاة فقيرة؛ لتتناسل من هذه الأسرة مدينة الجد الأوّل التي كونت مجتمع الرواية، وتأكيدا على هذا البعد الإنساني الخالص تنتهي الرواية بمشهد الشاب الغجري (باختو) والفتاة المثقفة الجميلة (توليب) في لوحة تشكيلية ذات دلالة عميقة، تجسّد ولادة الطبيعة من جديد، وباستشراف لمستقبل خالٍ من الحروب والخذلان: «فانفضت الاشتباكات وأُصيب من كانوا في الجبل بصمت متسائل، وراحوا يحدقون إلى السماء، والطائر الأبيض فوقهم لا يزال يحلق بهدوء، إلى أن طار نحو مدينة الجد الأول، حينها تبعوه بهمّة ضعيفة ورؤوس محنية، عبر الظلمة وهي تبتلع تلك الكتل البشرية، بينما باختو وتوليب يقفان على رأس جبل الجد الأوّل عاريين، وليس في جعبتيهما شيء سوى ناي قيل إنه منذور لزمن مقبل». فأيّ مرارة وأيّ معاناة أعمق من رغبة الإنسان في التمرد على روحه وجسده وضميره بعدما فقد القدرة على الاستمرار في واقع مؤلم، يسوده الزيف والصراع والوباء؟ إنّ هذا المخزون العميق من الألم يُلقي على العالم كلّه القيام بدوره الإنساني بعيدا عن حالة الاختلال في القيم الذي تحياه البشرية، فبعد أن قاد بطل الرواية (باختو) المدينة إلى قبر الجد الأول الذي يجسّد ميراث الإنسانية الخالد؛ لينقذها من الفناء، فمن سيقود البشرية في أيامنا للخلاص ممّا تعانيه؟

*ناقد أردني