اخبار اليمن
موقع كل يوم -شبكة الأمة برس
نشر بتاريخ: ١٤ تشرين الثاني ٢٠٢٥
يظنّ كثير من القادة أن أخطر ما يواجهونه يكمن في تحديات السوق وضغط المنافسة وتقلبات الاقتصاد، غير أن التهديد الحقيقي غالبًا لا يأتي من الخارج، بل من الداخل, بحسب الرجل.
فهناك معتقدات وقناعات تتسلل بمرور الوقت إلى طريقة تفكير القائد، لتتحول إلى حواجز غير مرئية تفصله عن إمكاناته الحقيقية.
في هذا التقرير، نفتح الباب أمام رحلةٍ داخليةٍ عميقة، نعيد فيها النظر إلى ما يعتقده القائد عن ذاته وعن القيادة، لنتأمل كيف يمكن للتحرر من هذه المعتقدات أن يغيّر ليس طريقته في القيادة فحسب، بل طريقة حضوره وتأثيره في الآخرين.
القيود الخفية التي تُكبّل القائد من الداخل
القائد الحقيقي لا يُختبر فقط في قراراته الكبرى، بل في الأفكار التي تشكّل طريقته في التفكير. فالكثير من القادة لا تعيقهم الظروف أو نقص الموارد، بل قناعاتٌ راسخة تشكّلت بمرور الوقت تُقيّد رؤيتهم وتحدّ من قدرتهم على النمو.
من بين تلك المعتقدات الشائعة، شعور القائد بأنه يجب أن يكون حاضرًا في كل التفاصيل، وأن السيطرة الكاملة هي الطريق الوحيد لضمان النجاح.
غير أن هذا الشعور، مهما بدا نابعًا من الحرص، يحمل خطرًا خفيًا، إذ يقضي على الثقة داخل الفريق ويقتل روح الإبداع، لأن القيادة الحقيقية لا تُقاس بمدى التدخل، بل بقدرة القائد على التمكين والتوجيه دون فرض السيطرة.
كما يقع بعض القادة في فخّ التسرّع، إذ يعتقدون أن النتائج يجب أن تظهر فورًا. هذا التصور يجعلهم يقيسون النجاح بسرعة التنفيذ بدلًا من جودة الأثر، في حين أن المشاريع العظيمة تحتاج إلى وقت، وأن الصبر في القيادة ليس ضعفًا بل استثمار في نضوج الفريق ونموّه.
وهناك أيضًا من يظن أنه دائمًا على حق، فيُغلق باب الحوار ويُضعف روح النقاش داخل المؤسسة. مثل هذا المعتقد يجعل بيئة العمل فقيرة بالأفكار، لأن القائد الذي لا يصغي لا يتطور.
ومن المعتقدات المقيدة كذلك الخوف من الخطأ، وهو شعور يُكبّل التجربة ويقتل الجرأة. فحين يخشى القائد الفشل، يصبح فريقه مفرطًا في الحذر إلى درجة الجمود، فلا تُطرح أفكار جديدة ولا تُخاض تجارب مبتكرة.
وتبرز أيضًا مشكلة المقارنة غير المنصفة، حين يعتقد القائد أن الجميع يجب أن يمتلكوا القدرات ذاتها التي يمتلكها هو. هذا التفكير يعزل القائد عن فريقه، لأن القيادة الحقيقية تقوم على الفهم العميق للفروق الفردية وتقدير تنوّع المواهب داخل المؤسسة.
كما يقع بعض القادة في فخّ الإرضاء المستمر، فيوافقون على كل طلبٍ حتى لو كان على حساب الأولويات الكبرى. فالقدرة على الرفض عند الضرورة ليست قسوة، بل حماية للرؤية والاستراتيجية التي يقوم عليها النجاح.
ومع الوقت، تصبح هذه القناعات بمثابة قيودٍ ذهنيةٍ تُبقي القائد داخل منطقة الراحة، وتمنعه من التطور أو من إفساح المجال أمام الآخرين للنموّ من حوله.
كيف يتجاوز القائد هذه المعتقدات؟
التحرر من المعتقدات المقيدة لا يبدأ بالتصرف، بل بالوعي. فالقائد لا يستطيع تجاوز ما لم يدرك وجوده.
لذا تبدأ رحلة التجاوز بالاعتراف أولًا بأن بعض أنماط التفكير التي يعتمدها ليست حقائق مطلقة، بل تصوّرات ترسّخت بفعل التجربة والعادة.
بعد الوعي، تأتي مرحلة المواجهة، إذ يبدأ القائد بالغوص داخل جذور أفكاره ليفهم من أين جاءت ولماذا ما تزال تحكمه.
ولكي يدرك القائد ذاته بعمق، عليه أن يفهم أن المعتقدات لا تنشأ من فراغ، فهي نتاج تجارب سابقة شكّلت نظرته للعالم، أو ربما وُلدت من بيئة عملٍ قاسية غرست فيه الخوف من الخطأ، أو من تجربة ربط فيها النجاح بالسيطرة المطلقة.
في هذه المرحلة، يتعامل القائد مع ذاته بصدقٍ وشجاعة، لا ليُدينها، بل ليفهمها. فيبدأ بتفكيك طبقات تفكيره كمن يُعيد قراءة تاريخه ليكتشف كيف تشكّلت تلك القناعات التي طالما حكمته دون وعي.
وعندما يرى الصورة بوضوح، يدرك أن كثيرًا مما ظنه حقائق راسخة لم يكن سوى رد فعلٍ على تجارب قديمة أو بيئاتٍ فرضت عليه أنماطًا محددة من السلوك.
عندها فقط تحدث النقلة الحقيقية، حين ينتقل القائد من قيادةٍ تُقيّدها المعتقدات القديمة إلى قيادةٍ ناضجةٍ تنبع من الإدراك والثقة والوعي بالذات.
ومن هنا تبدأ الخطوة الأعمق، إعادة بناء المعتقدات. فالقائد الواعي لا يكتفي بكشف القيود، بل يعمل على استبدالها بأفكار أكثر مرونة وإلهامًا.
تلك التحوّلات الفكرية الصغيرة تصنع الفارق الكبير في الأداء القيادي، لأنها تحرّر القائد من وهم الكمال وتمنحه مساحةً أوسع للنمو بثقةٍ واتزان.
نتائج التحرر من المعتقدات المقيّدة
حين يتحرّر القائد من المعتقدات التي كبّلته طويلًا، تبدأ مرحلة جديدة من القيادة الواعية، تلك التي تُبنى على الثقة والإدراك والنضج بدلًا من الخوف والشك.
فالتحوّل الداخلي لا ينعكس على الذات فحسب، بل يمتد أثره إلى المؤسسة بأكملها، ليحدث ما يسميه الخبراء 'تأثير الدومينو الإيجابي' في الأداء والثقافة التنظيمية.
تُظهر الدراسات الحديثة أن القادة الذين يتغلّبون على أفكارهم المحدودة، كخوف الفشل أو التعلق بالمثالية المفرطة، يحققون نموًا ملحوظًا في النتائج المالية والإنتاجية، وفقًا لتقرير صادر عن شركة ماكينزي آند كومباني.
وتشير الأبحاث إلى أن المؤسسات التي يتبنى قادتها عقلية النمو تحقق أداءً أعلى بنسبةٍ تصل إلى 80% في قيمة المساهمين على مدى عقدٍ من الزمن، مقارنةً بتلك التي يقودها مديرون يخضعون لمعتقداتهم المقيدة.
لكن الأثر الأعمق لا يُقاس بالأرقام فحسب، بل يظهر في التحول الثقافي داخل فرق العمل. فعندما يتحرر القائد من الحاجة إلى السيطرة الكاملة، يبدأ بتمكين الآخرين، مما يبني بيئةً قائمة على الثقة والمسؤولية المشتركة.
وحين يدرك أن الخطأ ليس نهاية الطريق، بل فرصة للتعلّم، تتحول ثقافة الخوف إلى ثقافة ابتكار وتجريب، وتصبح الفرق أكثر استعدادًا للمجازفة المدروسة وصناعة الأفكار.
هذا التحرر الداخلي يعزز الحضور القيادي؛ فالقائد الواعي لا يحتاج إلى فرض سلطته، بل يبنيها بالثقة، والتواصل الصادق، والإلهام الحقيقي.













































