اخبار الاردن
موقع كل يوم -وكالة رم للأنباء
نشر بتاريخ: ١ تشرين الأول ٢٠٢٥
رم - (ح10) مذكرات أخطر جاسوسة انجليزية (من 1907 – 1926)
Gertrude Lowthian Bell
ماذا كتبت عن الأردن وعشائره واهميتهما
ترجمة وتحليل وتعليق المؤرخ المفكر
د. أحمد عويدي العبادي (أبو البشر ونمي)
دكتوراه من جامعة كامبريدج البريطانية – 1982م
(ح10) رسائل جيرترود / المرحلة الثالثة (1913–1914) ج1ج1ج1
، وهي من أغنى رحلات جيرترود بِل في البادية. في هذه الفترة كانت تقوم برحلة استكشافية كبرى امتدت من دمشق إلى وادي السرحان وتدمر والعراق، وكان للأردن نصيب وافر في هذه المراسلات، وهذا ما يهمنا في هذا الكتاب. (المصدر: أرشيف جامعة نيوكاسل)
أهم إشاراتها إلى الأردن في هذه المرحلة:
وصفها المفصل للقاءاتها مع بني صخر في سهول البلقاء.
حديثها عن الحويطات ورحلاتها معهم قرب وادي رم والعقبة.
إشاراتها المتكررة إلى الأزرق باعتباره محطة رئيسة في عبور البادية.
ملاحظاتها حول التوازن بين حياة البدو المستقرة والسلطة العثمانية.
هذه الرسائل أطول وأغزر من رسائلها السابقة في 1905–1907، لأنها تتفق مع مشروعها لرسم الخرائط القبلية والسياسية للبادية.
10 = رسالة من البلقاء (ربيع 1913) / كتبت جيرترود بِل إلى أهلها تقول:
'وصلت إلى سهول البلقاء بعد رحلة طويلة عبر الأراضي المنخفضة. الأرض هنا منبسطة واسعة، يكسوها القمح في هذا الموسم، والهواء عليل يجلب معه رائحة الزهور البرية. منظر القرى الصغيرة وسط هذا السهل يبعث على الطمأنينة بعد أيام من الترحال في البادية.'
'استقبلني رجال من بني صخر، وقد بدوا في أبهى صورهم: عباءات صوفية طويلة (تقصد الفروة)، وأحزمة مشدودة، وسيوف تلمع في أغمادها. كانوا يمتطون خيولًا أصيلة، وأظهروا براعة في الفروسية لا تقل عن أي شيء رأيته في بلاد العرب من قبل. جلسنا في خيمة شيخهم، حيث القهوة تُصبّ ببطء وباحترام، والحديث يجري حول الأرض والمطر والسياسة.'
'أكثر ما شدني هو وعيهم بموقعهم. قال لي الشيخ: (نحن بين دولتين: العثمانيين من الشمال، والحجاز من الجنوب. لكننا نحن بني صخر أصحاب هذه الأرض، لنا فيها مراعي ومياه، ومن يمرّ بنا لا بد أن يحسب حسابنا). كانت كلماته تحمل اعتزازًا بالقبيلة وثقة بقوتها، وكأنها تعلن أن التوازن في هذه البلاد لا يُصنع إلا عبرهم.'
'تجولت مع بعض الرجال في سهولهم، فرأيت الخيام منصوبة على التلال، والنساء ينسجن الأثواب السوداء من شعر الماعز (تقصد شقق بيوت الشعر)، والأطفال يرعون الأغنام والماعز. المشهد لم يكن مجرد حياة بدوية عابرة، بل نظام كامل قائم بذاته، له قوانينه وقيمه، وله أيضًا كبرياؤه واستقلاله.'
'كتبت في دفتري: (إن بني صخر هم قلب البلقاء النابض، لا تستطيع أن تفهم هذه الأرض دون أن تفهم مكانتهم فيها. إنهم جسر بين الفلاحين في القرى والبدو في البادية، وحلقة وصل بين العثمانيين والقبائل الأخرى).'
11= رسالة من وادي رم وما حوله (صيف 1913) / كتبت جيرترود بِل إلى أهلها تقول:
'تحركت جنوبًا من معان نحو وادٍ يسمونه رم. الطريق كان يمر بين جبال شاهقة، كأنها جدران عظيمة ارتفعت فجأة من قلب الصحراء. الصخور حمراء، تتبدل ألوانها مع حركة الشمس، فتارة تبدو كالذهب، وتارة كالدم القاني. لم أرَ مشهدًا طبيعيًا أشد رهبة من هذه الجبال.'
'هنا التقيت برجال الحويطات. استقبلوني بخيامهم السوداء على سفوح الرمال. كانوا مسلحين ببنادق حديثة حصلوا عليها عبر تجارة خفية (سرية) مع الحجاز. بدت عليهم ثقة كبيرة بأنفسهم، وكأنهم يملكون هذه الأرض الواسعة وحدهم. شيخهم رجل مسن، له لحية بيضاء وعيون ثاقبة، جلس يحدّثني عن قبيلته. قال: (نحن أهل الجنوب، نحمي القوافل، ونعرف الطريق إلى البحر. لا يمر غريب إلا بعلمنا وإذننا).'
'كانوا يتحدثون بفخر عن علاقتهم بالعشائر الأخرى. ذكروا أنهم كثيرًا ما يشتبكون مع بني عطية أو مع بعض فروع بني صخر، لكنهم أيضًا يعقدون تحالفات إذا اقتضت الحاجة. بدا لي أنهم يمارسون سياسة دقيقة لا تقل شأنًا عن سياسة الدول. أحد الشبان قال لي: (من لا يعرف كيف يعقد الحلف، لا يعرف كيف يعيش في الصحراء).'
'رأيت النساء يعملن على إعداد اللبن والسمن، فيما الأطفال يعتنون بالجِمال. كل شيء في خيامهم يدل على الاستقلالية: الطعام، الماء، السلاح، وحتى القصص التي يتناقلونها. لمست فيهم إحساسًا عميقًا بالحرية، مقرونًا بصرامة تجعلهم يحذرون أي غريب. ومع ذلك، عاملوني بكرم بالغ، وقدموا لي القهوة واللحم. قال الشيخ: (من دخل بيتنا فهو آمن).'
'عند المساء، صعدت إلى صخرة عالية أطل منها على الوادي. كانت الخيام تبدو كنجوم سوداء على الرمال الحمراء، والجبال تحيط بالمكان كالحصون الطبيعية. كتبت في دفتري: (إن الحويطات سادة هذه البلاد بلا منازع، فهم يملكون الأرض والطرق، ويملكون معها روحًا بدوية لا تخضع إلا لقوانينها الخاصة).'
12 = رسالة من الأزرق (أواخر 1913) / كتبت جيرترود بِل إلى أهلها تقول:
'بعد أيام طويلة من السير في الصحراء، بدت لنا فجأة واحة الأزرق، كأنها سراب تحقق فجأة. عيون الماء تجري هنا بصفاء نادر، وأشجار النخيل تظلّل المكان بظلال باردة، والطيور ترفرف فوق المياه. كان المشهد مدهشًا بعد مسافة لا تنتهي من القفر (أي الأرض الخالية)
'في وسط الواحة ترتفع قلعة حجرية سوداء، مشيدة من البازلت، متينة الجدران، ذات أبراج وزوايا قوية. حين دخلت القلعة شعرت أنني أمام حصن لم يُبنَ للزينة، بل للحماية والبقاء. الغرف باردة، والأرضيات صلبة، والآبار محفورة داخل الجدران لتؤمن الماء لمن يتحصن فيها. قلت لنفسي: (من يملك الأزرق يملك مفاتيح الصحراء).'
'هنا التقيت جماعة من بني صخر ومن البدو الرحّل الذين يقصدون الأزرق للتزود بالماء. جلست مع أحد شيوخهم في ساحة القلعة. كان يحدثني عن الأزرق وكأنه قلب حي للبادية. قال: (من الأزرق نخرج إلى وادي السرحان، ومنه إلى الشام، ومنه إلى العراق. إنه طريق كل قافلة وكل غزو). كلماته جعلتني أدرك أن الأزرق ليس مجرد واحة، بل عقدة مواصلات استراتيجية في المنطقة كلها.'
'كانت في المكان حامية عثمانية صغيرة، لا يتجاوز عدد جنودها العشرات. بدا لي أنهم لا يسيطرون على شيء فعليًا خارج جدران القلعة. السلطة الحقيقية هنا بيد القبائل، فهي التي تتحكم بالطرق، وتفرض الضرائب غير المكتوبة على من يمر. لقد أدركتُ أن الدولة العثمانية ليست إلا اسمًا بعيدًا، بينما الواقع تصنعه القبائل.'
'في الليل، كان ضوء القمر ينعكس على حجارة القلعة السوداء، فتبدو كأنها كتلة واحدة مع الصحراء. كتبت في دفتري: (الأزرق حصن طبيعي وسياسي. من يسيطر عليه يملك أن يرصد كل تحرك في البادية، ومن يغفله يخسر الصحراء بأسرها).'
13 = رسالة عن البلقاء وسكة الحجاز (1914) / كتبت جيرترود بِل إلى أهلها تقول:
'سرت هذه المرة بمحاذاة خط سكة حديد الحجاز، ذلك الخط الحديدي الذي يشق الصحراء كأنه جرح في جسدها. المحطات متفرقة، لا تحيط بها مدن، بل مجرد أبنية صغيرة يقيم فيها الجنود الأتراك، يحرسون الخط من غارات القبائل. لكن الحقيقة أن الخط لم يغيّر جوهر البادية: القبائل ما تزال سيدة الأرض، والخط يمر بينهم غريبًا يحتاج دائمًا إلى رضاهم.'
'مررت أولًا بسهول البلقاء، حيث بني صخر يسيطرون بسطوتهم. كان فرسانهم يراقبون كل قافلة تمر، ويأخذون ما يرونه حقًا لهم من إتاوة أو حماية. قال لي أحدهم بلهجة قاطعة: (لا قطار ولا سلطان يمر هنا دون أن يحسب حسابنا). شعرت أن البلقاء ستظل مفتاحًا لا يستطيع العثمانيون تجاوزه.'
'ثم اتجهت نحو الشرق، حيث يمتد وادي السرحان طريقًا طويلًا يقود إلى قلب الجزيرة. هنا التقيت بجماعات من الرولة وغيرهم من قبائل الشمال. كانوا يتحدثون عن السكة كما يتحدثون عن نجم جديد ظهر في السماء: غريب، لامع، لكنه لا يغير مسار الصحراء. قال شيخ منهم: (القطار يمشي في ساعاته، لكننا نحن نمشي في أوقاتنا). أدركت أن الفارق بين نظام الدولة ونظام البادية أبعد من أن يُردم بخط حديد.'
'في الطريق سمعت قصصًا عن غارات وقعت على بعض المحطات، وعن مواجهات بين الجنود والبدو. بدا واضحًا أن السكة لن تكون أداة إخضاع، بل ساحة صراع جديدة. كتبت في دفتري: (الحديد يصرخ حين يسير، لكن صوت الإبل والخيل أعمق أثرًا في هذه الأرض).'
'ما شدني أكثر هو أن القبائل، رغم اعتراضها على نفوذ الدولة، بدت تدرك أن الخط قد يجلب لها تجارة ورزقًا. سمعت من أحد التجار أن بني صخر صاروا يبيعون الحبوب والزيت للقوافل التي تنتظر في المحطات. بدا أن البادية قادرة دائمًا على التكيف، وأن القبائل تعرف كيف تحول الخطر إلى فرصة.'
14 = رسالة عن الحويطات والعقبة (ربيع 1914) / كتبت جيرترود بِل إلى أهلها تقول:
'اتجهت جنوبًا نحو العقبة، وكان عليّ أن أمرّ عبر صحراء مترامية تفتح الطريق على وادي عربة. الطريق قاسٍ، لكنه مليء بالحياة الخفية: قطعان الإبل، خيام البدو، والآبار التي يعرفها أهل القبائل وحدهم. شعرت أنني أسير في أرض لا تخضع لسلطة، إلا سلطة من يعرف أسرارها.'
'في هذا الطريق التقيت برجال الحويطات. كانوا فرسانًا أشداء، مسلحين ببنادق حديثة وسيوف لامعة. أحدهم قال لي بفخر: (نحن حراس العقبة، لا يمرّ غريب دون علمنا). وقد بدا واضحًا أن هذه القبيلة تمسك بمفاتيح الجنوب: من وادي رم إلى البحر الأحمر.'
'جلست في خيمة شيخهم، وكان الحديث يدور حول التجارة والغزو. أخبروني أن الحويطات يتنقلون بين العقبة ومعان والبادية الشرقية، وأنهم يعرفون كل مسلك وكل وادٍ. ذكروا أيضًا أن علاقتهم مع بني عطية والرولة متأرجحة، بين تحالف مؤقت وغارة مباغتة. بدا لي أن الصحراء كلها شبكة من التوازنات، والحويطات في قلبها.'
'سمعت من بعضهم قصصًا عن قوافل الحجيج التي تمر من طريق الحجاز. قالوا إن دورهم لا يقتصر على الغزو، بل يشمل أيضًا الحماية. فالذي يريد أن يمر سالمًا لا بد أن يعقد صلحًا معهم. أحد الشيوخ قال لي: (من أراد مكة، فليمر من خيمتنا أولًا). كانت كلمات تحمل في طياتها حقيقة القوة على الأرض.'
'حين وصلت إلى العقبة، رأيت البحر الأحمر مرة أخرى. البلدة صغيرة، لكنها تنبض بالحياة بفضل موقعها. التجار المصريون والحجازيون يجلبون سلعهم، وأهل الحويطات يشرفون على كل ما يدخل أو يخرج. كتبت في دفتري: (العقبة بوابة البحر، والحويطات مفتاحها. من أراد أن يفهم الجنوب الأردني، فلا بد أن يبدأ بهم).'
15 = رسالة عن الأزرق (صيف 1914) / كتبت جيرترود بِل إلى أهلها تقول:
'بعد أسابيع في الصحراء عدت مجددًا إلى الأزرق، ذلك الموضع الذي لا يمكن للمسافر أن يغفله. إن واحة صغيرة كهذه تكاد تختصر سرّ البادية كلها: الماء، الظل، والقدرة على البقاء.'
'العيون جارية بصفاء، تحيط بها أشجار النخيل والقصب، والطيور تتزاحم عند ضفافها. بدا المشهد كأن الطبيعة شاءت أن تضع هنا علامة أمان وسط الفلاة. عند وصولنا، كانت هناك جماعات من بني صخر وبدو آخرين، يقيمون مؤقتًا للتزود بالماء قبل متابعة طريقهم.'
'جلست في قلعة الأزرق مرة أخرى. جدرانها السوداء من البازلت ثابتة كأنها جزء من الأرض. الجنود العثمانيون كانوا قلة قليلة، متحصنين داخل أبراجها، لكنهم بدوا غرباء عن المكان. من الواضح أن القوة الفعلية خارج الأسوار بيد القبائل. أحد الجنود قال لي: (نحن نحرس القلعة، أما الطرق فيحرسها العرب). كانت جملة تختصر واقع الحال.'
'استمعت إلى شيخ من بني صخر يحدثني عن دور الأزرق. قال: (من هنا نذهب إلى السرحان، ومن هنا نصل إلى تدمر، ومن هنا نرجع إلى البلقاء). فهمت أن الأزرق ليس فقط واحة، بل عقدة مواصلات، قلب شبكة من المسالك التي لا يعرفها إلا أهل البادية.'
'في الليل، جلست على سطح القلعة. القمر كان بدرًا، يضيء الجدران السوداء والواحة المحيطة. كتبت في دفتري: (الأزرق ليس مكانًا عابرًا، إنه عين الصحراء. من يسيطر عليه يرى كل ما حوله، ومن يضيعه يفقد القدرة على فهم البادية).'
انتهت (ح10) وتليها (ح11) وهي متابعة رسائل الجاسوسة