اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٢١ تشرين الثاني ٢٠٢٥
د. ملحة عبدالله
للأسف الشديد لا يزال هناك خلط بين مفهومي النقد والانتقاد، فالانتقاد هو ذكر مثالب ومساوئ العمل؛ وهذه كارثة، بينما النقد هو تحليل وتفسير لهذا العمل أو ذلك بقصد توصيل الرسالة لمتلقٍ غير متخصص.. فإذا كان معنى النقد في اللغة العربية هو التمييز بين جيد العملة «فضية أو ذهبية» وبين زائفها، فهذا يستلزم من الناقد الخبرة والفكر المعياري النقدي على أسس معيارية، ثم الحكم..
إن انتقال النقد المسرحي من المفهوم الجمالي، المعهود إلى كونه علماً من العلوم جعل المفاهيم النقدية العربية وتعدد 'أبستيمولوجيا' النقد في حيرة، وجعلت المسرح في غربة، وذلك يرجع لندرة تخصص النقد المسرحي وإلى تدفق العديد من النظريات وخصوصاً في النقد الحديث.
فالفن المسرحي نطاق من نظريات وأسس تكونت عبر التاريخ الإنساني نتيجة تطور المعارف الإنسانية والعلوم المختلفة وكانت تساعد الناقد وتقدم له يد العون حتى يكون تقييم الناقد للعمل المسرحي تقييما موضوعيا عادلا، قائماً على معيار نقدي لا دخل فيه للنزاعات الشخصية أو لمعارف تتأرجح بين نظريات عربية وغربية غير مستنبتة من تربة عربية تعمل على الاستئناس والأنس، مما جعلت الناقد المسرحي يقف بين القديم والحديث وبين النزاعات الفردية في جو من الاغتراب، هذا الاغتراب يطال بدوره القارئ، ومن أوضح آثار ذلك عجز الناقد عن تحقيق وجوده الأصيل بوصفه ناقدا عربيا ينتمى إلى ثقافة مازالت لها خصوصيتها التاريخية والحضارية ولم تفتتها قيم ومعايير النظام العالمي الجديد.
وفي العالم الجديد الذي افترضه فريدمان بأنه مسطح نظرا لامتداد التواصل التقني أصبح هذا العالم موحشا حيث أصبح من خاصية المسطح هو عدم التماس والتلاقي، فالمتوازيات لا تتلاقى بأي حال من الأحوال، ولذا أصبح للنقد وظيفته المتضاعفة لتفعيل الألفة بين الأعمال الفنية والمسرحية، وبشكل خاص المستمدة من الفنون العالمية والدافقة نحونا، في حين عدم جاهزية المتلقي العربي غير المختص لفهم هذه الأعمال وأهدافها ووظائفها.
تفاديا لعدم إحداث الغربة مع الفنون المسرحية الحديثة والمتلاقحة عالميا -فالأنس هو صانع الحضارات والتقدم في شتى المجالات- كان لزاما تغذية النقد والنقد المسرحي على وجه الخصوص، فالنقد المسرحي يندر في مجالات الفنون المسرحية وخاصة في بلادنا لندرة التخصص فيه حيث إن له مدارسه ومداراته ومداركه الخاصة به، ذلك لأن النقد المسرحي يختلف كل الاختلاف عن النقد الأدبي، إذ إن النقد الأدبي يبحث في علم جماليات اللغة، بينما النقد المسرحي له مصطلحاته الخاصة التي يتفرد بها مثل فنون الحبكة والصراع والتوتر وأفق الانتظار والبطل، والبطل الضد، والظل والضوء وفنون الحركة والتشكيل في الفراغ وغير ذلك كثير، ودراسة المنظر والاهتمام بالإرشادات المسرحية كونها تحمل أهمية الحركة في النص المسرحي.
وللأسف الشديد لا يزال هناك خلط بين مفهومي النقد والانتقاد، فالانتقاد هو ذكر مثالب ومساوئ العمل؛ وهذه كارثة، بينما النقد هو تحليل وتفسير لهذا العمل أو ذلك بقصد توصيل الرسالة لمتلقٍ غير متخصص.. فإذا كان معنى النقد في اللغة العربية هو التمييز بين جيد العملة 'فضية أو ذهبية' وبين زائفها، فهذا يستلزم من الناقد الخبرة والفكر المعياري النقدي على أسس معيارية، ثم الحكم.. وهذا هو المعنى القريب من الأصل الاشتقاقي لكلمة نقد في اللغات الأوروبية، والنقد بالإضافة لكونه علما من العلوم الإنسانية إلا أنه أيضا ملكة من ملكات الآذان، فالإنسان فطر على الحكم على ما يقع أمامه من الأشياء، وتفضيلات الأطفال أحسن نموذج على ذلك، لكن هذا الحكم كثيرا ما يفتقد العلة والتبرير للتفضيلات وهو ما يمكن تسميته (النقد الساذج)، ولكى يعرف الإنسان السبب وراء تفضيلاته، يجب أن تكون لديه الخبرة والمعرفة الأصيلة بقواعد وأسس اختيار الجيد من الرديء.
وهذا ما يفتقده النقد المسرحي في عالمنا الثقافي المعاصر، فلا مسرح بلا نقد، لأن كليهما وجهان لعملة واحدة لا تستقيم إحداهما دون الأخرى.
والمعرفة هي إحدى ركائز الناقد، إن جاز التعبير، وإذا ما ولجنا الى أغوار المعرفة -هذه الكلمة التي حيرت العلماء والباحثين عبر العصور- نجدها تأخذ مناحيَ عديدة، فلسفية، علمية، تاريخية، وأنثروبولوجية، تجعلها جوهرية تحمل في ثناياها خلاصة المجتمعات البشرية الآتية من عمق التاريخ في ديمومة بحثية لا تنتهي.
ولذلك فالفلسفة والتاريخ يشغلان حيزاً كبيرًا من أدوات الناقد، 'فالمطابع مغازل والباحثون ديدان قز، فاحذر أن تتعقد حولك خيوط الحريرية'. وهذه مشكلة من مشاكل النقد الحديث، فعندما نتحدث عن الناقد ودوره فى العملية الإبداعية فإننا نتحدث عن عصب مهم في مهمة المبدع وأثره على المتلقي، وبالتالي المجتمع، حتى يصل الأمر إلى الفرد الواحد داخل البنية الاجتماعية، فالناقد هو تلك القناة التي يتم من خلالها فهم وتوصيل الرسالة، ثم صياغة الوجدان الجمعي في نهاية الأمر، حيث إن العمل المسرحي رسالة من مرسل إلى متلقٍ، والناقد هو ذلك الوسيط الذى يتناول بالتحليل والتفسير لكى تصل الرسالة المنشودة، وبالتالي رفض كل ما هو رديء في رسائل ثقافية تعمل على تشتيت الصورة الحقة أو تسيء لها، فالمسرح ليس رفاهية أو تسلية كم يعتقد البعض، بل له وظيفة مُهمة، ومَهمة يجب أن نصل لكنهها.
وتحت تأثير التقدم العلمي في حقل الفيزياء خاصة، أصبح النقد أبستمولوجيا في قرننا هذا -أي أنه أصبح خطابا حول أسس الخطاب العلمي نفسه- كما مع الفرنسي 'غاستون باشلار'. فيشهد زماننا الحالي هجوما مركزا على المسلمات التى كانت ترتكز عليها المعرفة كبراءة العلم وسلطة العقل ومركزيته، ويكفى أن نذكر في هذا المضمار عمل الألماني 'يوجينى هاربر، والفرنسيين ميشال فوكو وجاك درايدا، وهيليس ميلر، وبوب دي مان، وجيفري هارتمن، وهارولد بلوم، ولويس جولدمان، ولونارد بارت وغيرهم': إن العلوم الإنسانية من اقتصاد وألسنة وتحليل نفس قد زعزعت الثقة بالصرح الانساني.. ومن هنا كانت الصعوبة القصوى فى الحديث عن أي نظريات وخاصة المسرح، ومع كل ذلك نشكر وزارة الثقافة بقيادة معالي الوزير سمو الأمير بدر بن عبدالله بن محمد بن فرحان الذي تنبه لهذا الأمر ومدى أهميته، فأرسل البعثات لدراسة النقد المسرحي المتخصص وفنونه، وننتظر حين عودتهم الكثير من النهوض بالحركة المسرحية كما يراها سموه.
وفى ضوء ما سبق، وهذا الزخم من المدارس النقدية يقف الناقد المسرحي المتخصص على الحياد بموضوعية تامة لا يعرف المداهنة ولا المجاملة لمصلحة العمل الفني نفسه دون غيره.










































