اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٢٩ كانون الأول ٢٠٢٥
تقرير - صلاح القرني
في زمن تتسارع فيه وسائل التعبير البصري وتتغير فيه أدوات التواصل، يبرز الخط العربي بوصفه أحد أكثر الفنون ارتباطًا بالهوية واللغة والتاريخ. وانطلاقًا من هذا الوعي، جاء مركز الأمير محمد بن سلمان العالمي للخط العربي ليشكّل مشروعًا ثقافيًا نوعيًا، يسعى إلى إعادة تقديم الخط العربي بوصفه فنًا حيًا، قادرًا على التفاعل مع الحاضر وصناعة المستقبل، دون أن يفقد جذوره العميقة في التراث.
مشروع حضاري
يقوم المركز على فكرة محورية مفادها أن الخط العربي ليس مجرد ممارسة فنية أو مهارة يدوية، بل هو حامل ثقافي ومعرفي يعكس تطور اللغة العربية، ويختزن في أشكاله وتحولاته تاريخًا طويلًا من الإبداع الإنساني. ومن هنا، لا يتعامل المركز مع الخط العربي بوصفه موروثًا ساكنًا، بل كمساحة مفتوحة للتجديد، والبحث، والابتكار.
تتلخص فكرة المركز في حماية الخط العربي من الاندثار أو التهميش، وفي الوقت نفسه تمكينه من مواكبة العصر، ليكون حاضرًا في مجالات التعليم، والتصميم، والفنون البصرية، والصناعات الإبداعية، وليبقى جزءًا فاعلًا من المشهد الثقافي المحلي والعالمي.
الرؤية والرسالة
يسعى مركز الأمير محمد بن سلمان العالمي للخط العربي إلى أن يكون مرجعية دولية لكل ما يتصل بالخط العربي، من تعليم وبحث وتوثيق وإبداع. وتتمثل رؤيته في بناء منظومة متكاملة تُعنى بالخط العربي بوصفه فنًا عالميًا، قادرًا على التواصل مع الثقافات المختلفة، والتأثير في الذائقة البصرية المعاصرة.
أما رسالته، فتقوم على تمكين الخطاطين والباحثين والمهتمين، وتوفير بيئة محفزة للإبداع، ودعم الدراسات المتخصصة، وتوسيع دائرة الاهتمام المجتمعي بهذا الفن، بحيث لا يظل حكرًا على النخبة، بل يصبح جزءًا من الثقافة اليومية.
مجالات متعددة
لا يقتصر عمل المركز على جانب واحد، بل يتحرك ضمن عدة مجالات متكاملة، تشكّل في مجموعها مشروعًا ثقافيًا شاملًا.
أولًا: التعليم ونقل المعرفة
يولي المركز اهتمامًا كبيرًا بالتعليم، باعتباره الأساس في استدامة الخط العربي. ويقدّم برامج تدريبية منظمة، تبدأ من المستويات التأسيسية للمبتدئين، وصولًا إلى البرامج المتقدمة للمحترفين. وتشمل هذه البرامج تعليم الخطوط العربية المختلفة، مع التركيز على الجوانب التقنية والجمالية، وفهم القواعد الكلاسيكية، إلى جانب تشجيع الأساليب المعاصرة.
كما يحرص المركز على أن تكون العملية التعليمية مبنية على منهجية علمية، تجمع بين التدريب العملي والمعرفة النظرية، بما يسهم في تخريج خطاطين يمتلكون مهارة عالية ووعيًا ثقافيًا وفنيًا.
ثانيًا: البحث والتوثيق والأرشفة
يُعد البحث العلمي إحدى الركائز الأساسية لعمل المركز، حيث يسعى إلى توثيق تاريخ الخط العربي، ورصد تطوراته، ودراسة مدارسه وأساليبه المختلفة. ويعمل المركز على بناء أرشيف متخصص يضم مخطوطات، وأعمالًا فنية، ووثائق، ودراسات، تكون متاحة للباحثين والمهتمين.
ويهدف هذا الجانب إلى سد الفجوة بين الممارسة الفنية والبحث الأكاديمي، وإتاحة مصادر معرفية موثوقة تسهم في تطوير الدراسات المتعلقة بالخط العربي.
ثالثًا: المعارض والمتحف
يلعب العرض البصري دورًا مهمًا في إيصال جماليات الخط العربي إلى الجمهور. ولهذا، يضم المركز متحفًا مخصصًا للخط العربي، يُبرز تطور هذا الفن عبر العصور، ويعرض نماذج متنوعة من الأعمال الكلاسيكية والمعاصرة.
كما ينظم المركز معارض دورية ومتنقلة، داخل المملكة وخارجها، تهدف إلى تعريف الجمهور بالخط العربي، وإبراز قدرته على التفاعل مع الفنون الأخرى، وإظهار تنوعه وغناه الجمالي.
رابعًا: دعم الإبداع والمشروعات الريادية
انطلاقًا من إيمانه بأن الخط العربي يمكن أن يكون رافدًا اقتصاديًا ضمن منظومة الصناعات الإبداعية، أطلق المركز برامج لدعم المشروعات الناشئة المرتبطة بالخط العربي. وتشمل هذه البرامج حاضنات أعمال، ومنحًا، واستشارات، تهدف إلى تحويل الأفكار الإبداعية إلى مشروعات قابلة للتنفيذ والاستدامة. ويفتح هذا التوجه آفاقًا جديدة أمام الخطاطين والمصممين، لدمج الخط العربي في مجالات مثل: التصميم الجرافيكي، والمنتجات الثقافية، والعمارة، والفنون الرقمية.
خامسًا: المسابقات والملتقيات
ينظم المركز مسابقات متخصصة في الخط العربي، تستهدف مختلف الفئات العمرية والمستويات الفنية، بهدف اكتشاف المواهب الجديدة، وتشجيع التنافس الإبداعي، ورفع مستوى الإنتاج الفني.
كما يعقد ملتقيات وندوات تجمع الخطاطين والخبراء والباحثين، لتبادل الخبرات، ومناقشة قضايا الخط العربي، واستشراف مستقبله في ظل التحولات الثقافية والتقنية.
الخط العربي والهوية الثقافية
يحمل الخط العربي في جوهره بعدًا هوياتيًا عميقًا، فهو مرتبط باللغة العربية، وبالنص القرآني، وبالذاكرة الحضارية للأمة. ومن هذا المنطلق، يسهم المركز في تعزيز الوعي بالخط العربي بوصفه عنصرًا أساسيًا من الهوية الثقافية، وليس مجرد فن زخرفي.
ويعمل المركز على ترسيخ هذا الوعي لدى الأجيال الجديدة، من خلال البرامج التعليمية والأنشطة المجتمعية، ليصبح الخط العربي وسيلة للتعبير عن الانتماء الثقافي، وجسرًا يربط الماضي بالحاضر.
الجمع بين الأصالة والمعاصرة
من أبرز ما يميز مركز الأمير محمد بن سلمان العالمي للخط العربي هو سعيه الدائم إلى الموازنة بين الأصالة والتجديد. فهو يحترم القواعد الكلاسيكية للخط العربي، ويؤكد على أهمية إتقانها، لكنه في الوقت نفسه يشجع التجارب المعاصرة، والتوظيف الإبداعي للخط في سياقات جديدة.
هذا التوجه يجعل الخط العربي أكثر قدرة على البقاء والتطور، ويمنحه مساحة أوسع للحضور في الفنون الحديثة، دون أن يفقد هويته أو قيمته التاريخية.
أثر ثقافي يتجاوز الحدود المحلية
لا يقتصر تأثير المركز على المستوى المحلي، بل يتطلع إلى دور عالمي، من خلال بناء شراكات ثقافية، واستضافة مشاركات دولية، والتواصل مع المهتمين بالخط العربي في مختلف أنحاء العالم. وبذلك، يسهم المركز في تقديم الخط العربي كفن إنساني عالمي، قادر على الحوار مع الثقافات الأخرى.
يمثل مركز الأمير محمد بن سلمان العالمي للخط العربي نموذجًا لمشروع ثقافي معاصر، يجمع بين الرؤية الحضارية والعمل المؤسسي، ويعيد للخط العربي مكانته بوصفه فنًا حيًا ومتجددًا. ومن خلال اهتمامه بالتعليم، والبحث، والإبداع، والمجتمع، يضع المركز أسسًا متينة لمستقبل الخط العربي، ويؤكد أن هذا الفن العريق لا يزال قادرًا على الإلهام، والتأثير، وصناعة الجمال في عالم سريع التغير.










































