اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٧ تشرين الثاني ٢٠٢٥
شعور بالإنتماء إلى أقلية، أم مواطنة؟
د. ايوب ابو دية
عندما كنت طالبا في مدرسة تيراسنطة بعمان لم أشعر أبدا أنني أنتمي إلى أقلية، فكان ذاك عالمي المتوازن. ولكن عندما سافرت إلى بريطانيا للدراسة عام 72 شعرت بأنني ضمن أقلية بصفتي عربيا يعيش في خضم أغلبية من الانجليز.
وما لبثت أن أدركت أيضا أنني عربي ضمن أقلية من سكان هذا الكوكب؛ كوكب الأرض. والعرب، رغم تاريخهم الطويل وحضورهم الحضاري، يُعدّون أقلية بين شعوب الأرض، حتى مقارنة بالصين أو الهند على انفرادهما.
وبعدها بقليل أدركت أنني أردني أيضًا، أعيش في بلدٍ صغيرٍ المساحة غنيٍّ بتاريخه وبالتنوع البشري والثقافي؛ ورغم أن الأردن ينتمي إلى بلاد الشام الأوسع، لكنه يظل بلدا صغيرا ضمن بلدان العالم الشاسعة ، حتى بالنسبة لبعض الأقطار العربية.
وعندما عدت إلى الأردن وسكنت في العاصمة، شعرت بشعور الأقليات مرة أخرى؛ لأنني أدركت عندذاك أن أكثرية سكان هذا الموئل من أصول فلسطينية.
وما لبثت أن صنفت نفسي كعربي مسيحي كي أنضم إلى طيف أوسع في تصنيف الأقليات، ولكنني ما برحت أنتمي إلى أقليةٍ دينية في بلدٍ مسلمٍ بأغلبيته.
وبمرور الوقت أدركت أيضا أنني أنتمي أيضا إلى مدينة صغيرة هي الفحيص مقارنة بالمدن الأردنية الكبيرة الأخرى، رغم أنني في البداية كنت أعتقد أن الفحيص هي البداية والنهاية في هذا العالم.
ورغم أن أجدادي كانوا أوّل من رحل من السلط وسكن في الفحيص في بدايات القرن التاسع عشر، فقد وعيت على حقيقة أن عشيرتي هي من أصغر عشائر الفحيص، مقارنة بالعشائر الأخرى، رغم أن عشيرتي 'الديّات' تنضوي تحت لواء عشائر أكبر: في الفحيص 'السميرات'، وفي البلقاء 'العواملة'، مع توأمة مع عشيرة العدوان.
واليوم غدوت أشعر أحيانا بشعور الأقليات أيضًا داخل المؤسسة المسيحية نفسها، إذ إنني كاثوليكي المولد ضمن أغلبية من الأرثوذكس وطوائف أخرى، واجتاحني هذا الشعور مؤخرا، خاصة بعد انعقاد مؤتمر العرب المسيحيين الأخير، فأثار شجون مشاعري وأعاد تذكيري بأننا أقلية بدلا أن نكون مواطنين، أو إلى جانبها. وهذا ما يفعله المؤتمرون كل بضع سنوات، فعندما ننسى هذه التفرقة ما تلبث أن تعيد هذه المؤتمرات إحياءها، ربما عن غير قصد أو تعمّد.
هكذا تتعدد دوائر الأقلية من حولي وتتداخل: جغرافية، عشائرية، نفسية، اجتماعية، مناطقية، ودينية، وطائفية، وإقليمية — لكنها كلها تلتقي عند إحساسٍ واحد هو أن تكون مختلفًا ومميزا، وبالتالي أن تبحث عن مساحة تحفظ لك صوتك وهويتك وبقاءك دون أن تُقصي أحدًا أو تضطهده.
أن تكون ضمن أقلية لا يعني أن تكون ضعيفًا أو هامشيًا، بل يعني أنك أكثر وعيًا بذاتك، تدرك فرادتك وتستشعر خصوصيتك التي تميزك عن غيرك. فحتى التوائم الذين يشتركون في الملامح والذكريات، تختلف جيناتهم في تفاصيل دقيقة لا تراها العين، لكنها تصنع لكلٍّ منهم هوية متفردة.
أن تكون من ضمن الأقلية هو أن تمتلك بصيرة تجعلك أكثر إدراكًا لقيمة الاختلاف، وأكثر حرصًا على صون خصوصيتك، وأشد تمسكًا بجذورك التي تغذي انتماءك؛ وهو أن تكون صادقًا في ولائك لوطنك، لأنك تعلم أن هويتك لا تكتمل إلا به، وأنّ تميّزك لا يزدهر إلا في أرضٍ تحمي تنوعها وتفخر بأبنائها جميعًا وتعدهم مواطنين سواسية.
شعور الأقلية ليس مجرد خوفٍ من الآخر، بل هو وعيٌ بأنك دائمًا موضع نظر واهتمام، وأنك دوما تحتاج إلى مضاعفة الجهد لتُرى وتُفهم، وكي تُثبِت أنك مخلص ومنتمي، بينما الأغلبية، التي حتى إذا كانت غير مخلصة لوطنها فليس عليها أن تثبت أي شيء.
مع ذلك، ورغم أنني كأردني لم أشعر بغربة في وطني أبدا، ولكن من هذا الهامش المُتعب والقلِق يتولد أعمق أشكال الإبداع: أنشودة التحدي التي تُغنّي رغم الرفض، وتسحّج رغم الألم؛ لهجةٌ وهوية تُحفظ في السر وتظهر عند الحاجة، وذاكرةٌ تُروى جيلاً بعد جيل بانتقائية تناسب الظروف الزمانية والمكانية.
وفي ضوء هذه الفكرة، يمكن أن نستحضر أمثلة من التاريخ القديم والحديث لأشخاصٍ أبدعوا رغم انتمائهم إلى أقليات دينية أو عرقية أو ثقافية في أوطانهم، فـيسوع الناصري ابن نجار متواضع، وابن قريةٍ صغيرة منسية تحت سلطةٍ رومانيةٍ قاهرة، نشر نور الرحمة فوق العالم كله. وفي الأندلس، وقف ابن رشد وموسى بن ميمون كتلميذين مضطهدين لنشر الحقيقة، رغم اختلاف دينهما، ليؤكدا أن العقل معيار المساواة الذي لا يعرف الأقليات.
وفي العصر الحديث، خرج آينشتاين من جرح الاضطهاد اليهودي ليعيد صياغة الزمان والمكان، ورفع مارتن لوثر كينغ صوته الأسود في أذن العالم الأبيض قائلاً: 'لديّ حلم'، فاستيقظ الضمير الإنساني من سباته، وصرخت غريتا غوتنبرغ من دولة السويد الصغيرة: 'أنا لست المشكلة؛ المشكلة هي حصار الفلسطينيين وتجويعهم'.
حتى طه حسين، وهو وحيدٌ في بصيرته وسط العتمة، جهر بالعقل في وجه التقليد، كما لو كان أمةً في رجلٍ واحد. ورغم أنه لم يكن ينتمي إلى أقلية عرقية أو دينية، إلا أنه كان ضمن 'أقليّة فكرية” في مجتمعه بسبب جرأته في نقد التقليد، فكان الاختلاف مصدر إبداعه.
كذلك طالبت مالالا يوسفزاي (من باكستان) التي تنتمي إلى أقلية نسوية بحق التعليم للفتيات في مجتمع محافظ، فأطلق عليها النار، وحصلت رغم صغر سنها على جائزة نوبل للسلام.
وستيف جوبز من أقلية سورية مهاجرة في أمريكا، ورغم ذلك استطاع أن يؤسس واحدة من أكبر الشركات التقنية في العالم ويغير شكل الحياة الرقمية.
وهكذا، تُمجّد الطبيعة وعي 'الاختلاف” كمنبع للإبداع والوعي بالذات. فمن الهامش وُلد الجوهر، ومن شعور الأقلية وُلدت أصفى أصوات الإنسانية. فليس الانتماء إلى قلةٍ نقيصة، فقد انتصر المسلمون في بدر وهم قلة، عبر امتيازُ الوعي بأنك مختلف، وأنك تُضيف لونًا جديدًا إلى لوحة العالم الواسعة، لوحةٍ لا تكتمل إلا بكل اختلافٍ صادقٍ وجميل. فالأقليات ليست ظلًّا في لوحة البشرية، بل هي الألوان الفسيفسائية التي تمنح اللوحة عمقها وجمالها.
خلاصة القول إن المختلفين، في كل زمانٍ ومكان، هم الذين أضاءوا دروب الإنسانية، فكانوا ذلك 'الهامش المتعب الذي يولّد أعمق أشكال الإبداع”. فمن يصغي إليهم بصدق يُدرك أن الإنسانية لا تُقاس بالكثرة ولا بالغلبة، بل بقدرة الإنسان على احترام الاختلاف، وضمانة أن يُسمع الصوت المختلف دون خوف أو تهميش، في ظل مجتمعٍ مدنيٍّ راقٍ، شعاره المواطنة المتعالية على العرق والجنس والدين.
ومع ذلك، فإن تكرار التذكير بوجود الأقليات، ومحاولاتهم المستمرة لتبرئة أنفسهم أو تأكيد أحقيتهم في الانتماء، إنما يكشف عن وجود خللٍ أعمق في بنية الوعي الجمعي. فحين يُضطر المختلف إلى إثبات شرعيته في فضاءٍ يُفترض أنه يتسع للجميع، فذلك يعني أن المجتمع ما زال عالقًا في أسئلة الهوية والانتماء، بدلاً من التوجه نحو قضايا أكثر جوهرية تمس الناس كلهم، مثل: العدالة، والتعليم، والكرامة، والتنمية، والحرية. إن تجاوز هذا الوعي المتشظي هو ما يفتح الطريق أمام مجتمعٍ يتعامل مع تنوّعه كقوةٍ مشتركة، لا كعبءٍ يتطلّب تبريرًا.












































