اغتيال طبطبائي بين حسابات الرد وميزان الردع: قراءة موسّعة في البنية الداخلية لحزب الله #عاجل

كتب زياد فرحان المجالي -

في لحظاتٍ يتراجع فيها ضجيج الصواريخ قليلًا، وتعلو فيها أسئلة السياسة فوق دخان العمليات العسكرية، تتجه الأنظار إلى الضاحية الجنوبية حيث سقط واحد من أبرز رجال الظل في حزب الله. اغتيال هيثم علي طبطبائي لم يكن حدثًا أمنيًا عابرًا، بل ضربة موجّهة إلى بنيتين معًا: البنية العسكرية للحزب، والبنية النفسية التي يستند إليها في تماسكه الداخلي وقدرته على الرد. ومع كل اغتيال من هذا المستوى، يعود السؤال مجددًا: هل يرد الحزب؟ لكن السؤال الأعمق هذه المرة هو: هل يستطيع؟ ومن هنا يبدأ التحليل.

1. من هو طبطبائي؟ ولماذا يشكّل اغتياله لحظة مفصلية؟

طبطبائي ليس قائدًا ميدانيًا عاديًا، بل أحد العقول التي صاغت منهج الحزب في الحرب الهجينة، وربطت بين عملياته في سوريا وبناء قدراته في لبنان. كان مسؤولًا عن إدماج الخبرة الإيرانية في منظومة الحزب، وعن تطوير قدرات الصواريخ الدقيقة ووحدات النخبة. اختفاؤه عن الإعلام كان جزءًا من طبيعة دوره، لا دليلًا على هامشيته. مقتله في الضاحية الجنوبية – قلب ما يُقدَّم كـ'حصانة أمنية' – أعطى للعملية بُعدين متلازمين: اختراق أمني عميق داخل واحدة من أكثر المناطق تحصينًا، وضربة نفسية تستهدف صورة الحزب كتنظيم يصعب الوصول إلى قياداته. وهذا ما يجعل العملية ليست ضربة تكتيكية فحسب، بل صفعة تُربك ثقة داخلية اعتمد عليها الحزب لعقود.

2. الوضع الداخلي لحزب الله بعد عام من الاستنزاف

للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، يقف الحزب أمام ضغوط متراكمة ومتداخلة. على المستوى البشري، خسر الحزب خلال الأشهر الماضية عددًا كبيرًا من كوادره الميدانية، بينهم قادة محليون ومسؤولون عن وحدات تقنية متقدمة. هذه الخسائر ليست رقمية فقط، بل نوعية، أثّرت في سرعة اتخاذ القرار، وفي تماسك 'سلسلة القيادة'، وفي فقدان خبرات تحتاج وقتًا طويلًا لتعويضها. على المستوى اللوجستي، يعيش الحزب منذ اندلاع حرب غزة حالة من القتال منخفض الوتيرة لكنه مستمر، ما يعني استنزافًا متواصلًا للذخائر، وخطوط الإمداد، والموارد البشرية، والقدرة على المناورة الميدانية. وعلى المستوى الأمني، كانت الضاحية تُقدَّم لبيئة الحزب بوصفها حصنًا لا يُخترق. اغتيال طبطبائي في شقة سكنية داخل هذا 'الحصن' يعني، في الوعي الداخلي، أن إسرائيل نجحت في اختراق العمق الأمني، وتنفيذ عملية استخبارية دقيقة وصلت إلى واحد من أكثر القادة حذرًا وتخفيًا. هذه الضربة فتحت شرخًا نفسيًا في صورة الحصانة، حتى لو لم يظهر ذلك علنًا في الخطاب الإعلامي.

3. الحالة النفسية داخل القاعدة الشعبية لحزب الله

القاعدة الاجتماعية للحزب، رغم تماسكها التقليدي وارتباطها العقائدي، تعيش اليوم في بيئة ضاغطة على أكثر من مستوى. اقتصاديًا، الانهيار المالي في لبنان ضرب بيئة الحزب كما ضرب غيرها، وجعل الكثير من العائلات في وضع اجتماعي صعب، خصوصًا بعد تراجع القدرة الإيرانية على الضخ المالي بالمستوى نفسه الذي كان قبل 2020. أمنيًا، يعيش سكان الجنوب والضاحية منذ قرابة عام تحت تهديد مستمر، يتنقلون بين النزوح المؤقت، وتعطل الأعمال، وقلق يومي من توسع المواجهة. سياسيًا ونفسيًا، بدأت تتشكل أسئلة غير معلنة داخل المجتمع المحيط بالحزب: ما معنى الدخول في حرب شاملة جديدة؟ إلى أي مدى يمكن الرهان على التحالف مع إيران في ظل الظروف الحالية؟ ما جدوى المواجهة المفتوحة، وماذا سيحدث إن توسعت الحرب خارج السيطرة؟ هذه الأسئلة لا تظهر على الشاشات أو في البيانات، لكنها حاضرة في الجلسات الخاصة، وتؤثر في المزاج العام ولو بصمت.

4. هل ما زالت إيران سندًا كما كانت؟

العلاقة بين إيران وحزب الله ما زالت علاقة استراتيجية عميقة، لكن طبيعتها تمرّ بمرحلة إعادة تموضع. إيران ما تزال الداعم الرئيسي للحزب، لكنها تواجه في المقابل ضغوطًا اقتصادية قاسية، وملفًا نوويًا تحت مجهر دولي شديد الحساسية، وانخراطات مكلفة في اليمن والعراق وسوريا. في هذه البيئة، لا تبدو طهران راغبة في الانجرار إلى حرب شاملة مع إسرائيل من بوابة لبنان، خصوصًا في لحظة تحاول فيها موازنة ملفات عدة في آن واحد. تحتاج إيران إلى حزب الله كذراع ردع على حدود فلسطين المحتلة، لكنها في الوقت نفسه تريد أن يبقى هذا الذراع داخل حدود 'المعقول والمحسوب'. هذا يعني أن الدعم اليوم ليس مطلقًا كما كان في سنوات سابقة؛ فهو دعم مضبوط بسقف سياسي واستراتيجي. لذلك، تبدو المعادلة الأقرب للواقع أن إيران لا تستطيع تحمّل مواجهة مفتوحة واسعة، لكنها في المقابل لن تسمح بانكسار الحزب أو انهيار صورته. وما بين هذين الحدّين يتحدد شكل الرد المحتمل الذي يسمح بالحفاظ على الهيبة دون الانزلاق إلى حرب لا يريدها أحد الآن.

5. خيارات الرد بعد الاغتيال… قراءة من الداخل

من الناحية النظرية، الخيارات الأربعة التقليدية ما زالت مطروحة أمام الحزب، لكن قراءتها في ضوء الوضع الداخلي تعطي صورة أكثر تعقيدًا. الخيار الأول هو رد صاروخي محدود، وهو الأكثر ترجيحًا لأنه يحفظ رمزية الرد، ولا يفتح الباب على مصراعيه أمام حرب شاملة، ولا يزيد الضغط على بيئة اجتماعية لا تتحمل موجة نزوح جديدة أو دمارًا إضافيًا في الجنوب والضاحية. الخيار الثاني هو عملية حدودية موضعية، وهذا السيناريو عالي الكلفة؛ لأنه قد يجرّ إسرائيل إلى عملية برية أوسع، ويكشف جوانب من الضعف الميداني المتراكم، ويدفع بثمن سياسي وشعبي أكبر داخليًا. الخيار الثالث هو الرد عبر الوكلاء، سواء من خلال الحوثيين أو مجموعات متحالفة في العراق وسوريا، وهو خيار مريح نسبيًا للحزب ولطهران معًا، لأنه يبعد مركز المواجهة عن لبنان، ويمنح إيران هامش مناورة سياسي، ويحافظ على قدرات الحزب الأساسية داخل الساحة اللبنانية دون استنزاف إضافي مباشر. أما الخيار الرابع، أي عدم الرد المباشر، فقد يبدو في ظاهره علامة ضعف، لكنه في الحسابات الاستراتيجية قد يُقرأ كقرار واعٍ يهدف إلى تحييد لبنان عن مرحلة تعتبرها طهران والحزب بالغة الحساسية، مع إبقاء حق الرد محفوظًا لمرحلة لاحقة أو ساحة أخرى.

6. هل يغيّر الاغتيال قواعد الاشتباك؟

الجواب لا يأتي بنعم أو لا قاطعة، بل في مساحة وسطى يمكن وصفها بـ'التغيير الجزئي'. إسرائيل، من خلال هذه العملية، أوضحت أنها لم تعد مترددة في توجيه ضربات دقيقة في قلب الضاحية، أي في عمق ما كان يُنظر إليه كمنطقة محصّنة. الحزب، من جهته، فقد شخصية توازي في أهميتها قيادات سابقة من وزن عماد مغنية في مجالها الخاص. القاعدة الاجتماعية تشعر بقلق حقيقي إزاء ما جرى، وإيران لا تبدو مستعدة لفتح جبهة كبرى في هذا التوقيت. هذه العناصر مجتمعة تعني أن قواعد الاشتباك لم تُلغَ بالكامل، لكنها لم تعد ثابتة كما كانت. اغتيال طبطبائي حمل رسالة واضحة المضمون: 'المناطق المحصّنة لم تعد كذلك'، وأن الهامش الذي تتحرك فيه إسرائيل في الشمال اتسع عما كان عليه في مراحل سابقة.

7. الأسابيع المقبلة… بين الرد المحسوب وخطر الانزلاق

المشهد في الأسابيع المقبلة يمكن النظر إليه من خلال عدة مسارات محتملة. المسار الأول هو رد محسوب لا يفتح الباب أمام حرب واسعة، وهذا هو السيناريو الأقرب للمنطق السياسي والعسكري، لأنه يوفّر للحزب إمكان القول إنه ردّ، دون تحمّل كلفة مواجهة مفتوحة. المسار الثاني هو رد غير مباشر عبر ساحات أخرى مثل اليمن أو العراق، يحفظ ما يُسمى 'هيبة المحور' ويجنب لبنان أثمان الحرب. المسار الثالث هو عدم الرد المباشر، مع تراكم نية الرد في سجّل طويل لصراع مؤجل يُترك توقيته لمرحلة لاحقة. أمّا المسار الرابع فهو الانزلاق غير المقصود إلى تصعيد واسع، قد ينتج عن عملية خاطئة التقدير، أو رد خارج الحسابات السياسية، أو قراءة سيئة لرسائل الطرف الآخر في لحظة توتر عالية.

8. قراءة تحليلية هادئة للمشهد كله

اغتيال طبطبائي ليس إعلانًا لحرب شاملة، لكنه في الوقت نفسه ليس عملية روتينية يمكن تجاوزها إعلاميًا وسياسيًا. هو ضربة مركّبة في العمق الأمني والنفسي والتنظيمي لحزب الله، جاءت في لحظة يعاني فيها من ضغط داخلي متزايد، وخسائر ميدانية متراكمة، وتراجع نسبي في القدرة على تحمّل حرب طويلة الأمد. الحزب اليوم يقف بين ثلاثة حدود واضحة: حدّ الرد من أجل الحفاظ على الهيبة والصورة أمام جمهوره وحلفائه، وحدّ التريث من أجل حماية بيئته الداخلية المتعبة اقتصاديًا ونفسيًا، وحدّ التنسيق مع إيران التي لا تريد معركة كبرى الآن ولا تستطيع في الوقت نفسه السماح بانكسار حليفها الأبرز على حدود فلسطين المحتلة. على الضفة الأخرى، تبدو إسرائيل وكأنها تختبر حدود الردع الجديد، وتستغل اللحظة الإقليمية لإعادة رسم قواعد اللعبة في الشمال، من دون أن تغفل عن عبء أي حرب مفتوحة في ظل استمرار الملفات المشتعلة في غزة والضفة. في هذا المشهد المعلّق بين الحساب والمخاطرة، يدرك الطرفان أن الخطأ الصغير في تقدير الموقف قد يتحول إلى مسار كبير لا يريد أحد العبور إليه الآن، وأن كل خطوة في الأيام المقبلة ستُقاس ليس فقط بمدى دقتها العسكرية، بل بقدرتها على تجنّب الانزلاق إلى مواجهة لا تبدو المنطقة مستعدة لتحمل نتائجها.