رم -

د . مهدي مبارك عبد الله

على نحو غير متوقع قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يوم الأربعاء الماضي وسط بهرجة اعلامية وحفاوة مصطنعة بزيارة ميدانية للقوات الإسرائيلية المتمركزة داخل الأراضي السورية في المنطقة العازلة الواقعة خلف الحدود المرسومة بين البلدَين بموجب اتفاقية فض الاشتباك الموقّعة بينهما عام 1974 والتي احتلتها القوات الإسرائيلية العام الماضية بعد الاطاحة بنظام الرئيس بشار الاسد

الزيارة التمثيلية الهوليودية جاءت وسط تصاعد التوترات الإقليمية لتفتح ملفًا جديدً فيما يتعلق بالحدود السورية الإسرائيلية وضبط امنها ووقف التجاوزات فيها ومع هذه الخطوة الاستفزازية التي لم تكن حدثًا عابرًا ولا مشهد عسكري اعتيادي وقد اثارت عدة تساؤلات حول الرسائل التي أرادت تل أبيب الكشف عنها بعدما اظهرت قدرتها على تجاوز الخطوط الحمراء وفرض الوقائع على الأرض وتهديد وتوتير الاستقرار الإقليمي في المنطقة مع كل ازمة داخلية تمر بها اسرائيل

رافق نتنياهو في هذه الجولة العاجلة كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين في إسرائيل بينهم وزيري الدفاع والخارجية ورئيس الأركان ورئيس الشاباك في استعراض واضح للقوة أكثر من كونها مسالة تفقدية في وقت ما تزال فيه إسرائيل تستهدف مواقع داخل الأراضي السورية عبر الغارات والعمليات الجوية والتوغل البري والتي لم تتوقف على الاطلاق في كل بقعة في سورية سواء في الجنوب او الشمال او الوسط بضوء أخضر امريكي ما يجعل الزيارة جزءًا من نمط مستمر للتأكيد ان النفوذ الإسرائيلي في جنوب سوريا سيكون طويل الامد

الواقع على ارض اظهر عدة رسائل نشرتها اسرائيل علانية عبر هذه الزيارة الاوضح فيها ان إسرائيل تريد تثبيت وتكريس وجودها في الجنوب السوري كأمر واقع وان تتجاوز القيود التقليدية لاتفاقية فض الاشتباك خاصة وان التحركات الإسرائيلية الميدانية تشير إلى وجود مخطط لإعادة تشكيل قواعد الاشتباك بين الطرفين بالقوة كما تبعث إشارات واضحة إلى دمشق بأن تل أبيب ستتصرف وفق مصالحها الأمنية اولا ودون النظر إلى التحذيرات أو التفاهمات السابقة كما حملت الزيارة في طيها رسالة إضافية إلى لبنان مفادها أن إسرائيل مستعدة لتوسيع نطاق عملياتها في أي وقت تراه مناسب وأن الجنوب السوري أصبح منصة استراتيجية يمكن من خلالها مراقبة وتحريك القوى الإقليمية وفق أولويات تل أبيب ومصالح

البعد السياسي للزيارة يرتبط بمحاولة إسرائيل إعادة فرض هيمنتها الإقليمية وتعزيز موقفها التفاوضي أمام القوى الدولية وان جولة نتنياهو هدفت الى تضييق هامش المناورة السورية واعلام واشنطن والدول الكبرى بأن تل أبيب لن تنتظر أي دعم أو ضوء أخضر للتصرف فيما يتعلق بمصالحها وهذا البند في مضمونه تهديد مباشر لسوريا ولبنان وإعلان ضمني بأن تل أبيب لوحدها سوف تفرض شروطها السياسية على أي مسار مرتبط بأمن دول المنطقة

أما في الجانب العسكري فقد قدم نتنياهو استعراض لفظي وتسويق غير عملي حول قدرة إسرائيل على الانتشار والتحرك داخل عمق الأراضي السورية وأن قواعد الاشتباك القديمة لم تعد ملزمة له وان التصعيد العسكري وتحركات القوات على الأرض واستمرار الغارات الجوية تؤكد أن تل أبيب تعمل على تثبيت نقاط نفوذ استراتيجية تبقي لها التفوق العسكري والسياسي وتخلق معادلة ردع جديدة يمكنها من خلالها التحكم في أي تحرك ميداني داخل سوريا أو لبنان

لقد حملت الزيارة أيضًا بعدًا داخليًا خطيرًا يظهر جليًا مدى الانهيار السياسيً والأخلاقيً الذي وصل اليه نتنياهو وحكومته حيث تكشف عمق الأزمة التي يعيشها النظام الذي يقوده في مشهد من أوّله إلى آخره يبدو وكأنه مسرح أُقيم على عجل لرئيس يختنق داخل بيته السياسي فهرب إلى الأمام حيث الحدود السورية محاطًا بوزراء وقادة أمن وإعلام وتغطيات مباشرة جميعها تتستر على فعلً مضطرب لا يستند إلى القوة بقدر ما يظهر الارباك والتسرع ونتنياهو نفسه يعرف أنه لم يعد يملك رفاهية التراجع وأن كل خطوة له يجب أن تشكل ضجيج أكبر من سابقتها لأن الصمت بالنسبة له بات اعترافً والمكاشفة انتحار والوقوف دون حركة سقوطًا لا يمكن تداركه وهو يعلم جيدا أن الوقوف على التلال السورية لا يمنحه القوة بل يعطيه فرصة لالتقاط صورة شكلية يستطيع أن يلوّح بها أمام جمهوره المنهك تماما كمن يرفع ورقة رابحة في لعبة خاسرة بعدما اعتبر نتنياهو الأرض السورية ملعب مفتوح يعلّق علي سياجه لافتاته السياسية متناسيا ان تصرفه بهذه الوقاحة لا ينتج الهيبة وان استعراضه فوق ارض محتلة لن يصنع له القوة

في ذات السياق كان المشهد الأكثر فضحًا وإيلامًا لخطاب القوة الإسرائيلية خلال الزيارة تلك الفضيحة التي انفجرت داخل قلب المؤسسة العسكرية وشكلت ضربة قاسمة لأسطورة الجيش الأكثر انضباطًا ومهنية واخلاق بعد القبض على شبكة تهريب أسلحة من سوريا إلى إسرائيل ضمت جنودًا نظاميين واحتياط ومدنيين سوريين وإسرائيليين حيث كشفت التحقيقات عن إدخال كميات كبيرة من البنادق والذخائر والمتفجرات والصواريخ عبر مركبات الجيش أثناء مهام صيانة القواعد وهو ما يعكس خللًا كبيرا داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية حيث تحول جنود الاحتلال إلى عصابات فاسدين وتجار سلاح واختلط الأمن بالجريمة وأصبحت حدود كيان الاحتلال بوابة لتهريب الممنوعات واستجلاب الفوضى بدل أن تكون خطوط دفاع وحماية اولية عن البلاد والمواطنين

مجاميع الانقسامات الداخلية وانهيار الثقة بالحكومة والخلافات الحادة بين مكونات الائتلاف والصراعات الشرسة بين العلمانيين والمتدينين وقضايا الفساد المتعددة التي تطارد نتنياهو فضلا عن تراجع مكانته في الشارع وتصاعد الاحتجاجات وفشل الحرب في تحقيق أهدافها وتواصل الضغوط الدولية التي تحاصر تل أبيب كلها عناصر جعلت من زيارة نتنياهو للأراضي السورية أشبه برقصة رجل يسير على حد السكين وهو لا يستعرض بل يقاوم الغرق ولا يوسع النفوذ بل يهرب من الانهيار وصورة القائد القوي فوق ارض محتلة لم تعد مقنعة بعدما تحولت جرعات وهمية ومسكنًات سياسيًة منتهية الصلاحية ومحاولات يائسة لتصنيع لحظة قوة مزيفة تطغى على اللحظة الواهنة والمهزومة التي يعرف حقيقتها الشعب الاسرائيلي بكل اطيافه ومكوناته

إسرائيل تعمل بعقلية الدب المتوحش ولم تعد تكتفي بالتحرك من خارج الحدود ولكي نفهم عمق هذه الحالة يجب أن نراقب كيف تتصرف سياسيًا في المنطقة فبينما تتصاعد أصوات دولية تطالب بوقف إطلاق النار وضبط النفس وتقليل التصعيد تتصرف تل أبيب وكأنها خارج هذه الدعوات تمامًا حيث تقصف وتتقدم حين تشاء وتتجاوز الخطوط متى تشاء وتضرب في سوريا ولبنان وغزة ثم تصرح أن وقف إطلاق النار بالنسبة لها هو مجرد توصية غير ملزمة وهذا المنطق المنفلت للقوة الذي لا ترى فيه اسرائيل القانون الدولي إلا جدار هشً يمكنها تسلقه او حتى ازالته ما يعكس الحالة النفسية الصعبة التي يعيشها الاحتلال وحاجته المستمرة لإثبات ارادة القوة عبر الفعل العسكري المباشر بعدما تآكلت وضعفت كل الطرق الأخرى التي كان يملكها

على الرغم من أن إدارة ترامب كانت قد طرحت في وقت سابقً رؤى تلمح إلى إمكانية تشكيل مسارات تطبيع أو تواصل غير مباشر بين دمشق وتل أبيب إلا أن نتنياهو اليوم يدوس على تلك المسارات بكلتا قدميه والاحتلال وهو لا يريد المصالحات حين يعتقد أنه قادر على فرض الوقائع بالقوة ولماذا يفاوض إذا كان بإمكانه اقتطاع الأرض غصبا ولماذا ينتظر إذا كان بإمكانه تجاوز الخطوط وان إسرائيل في هذه اللحظة لا تبحث عن تفاهمات وتقارب بل عن تثبيت أمر واقع يقوم على قاعدة بسيطة ( الذي نحتله اليوم يصبح غدًا جزءًا من الخارطة ) وهذا هو جوهر السلوك الإسرائيلي الخبيث ومصدر الخطر الحقيقي المقبل

بالمختصر المفيد زيارة نتنياهو ليست مجرد جولة عسكرية او حدث عابر بل عملية استفزازية لاستعراض القوة وتحذير مبطن لاستكمال مشروع التوسع الاستراتيجي وإعلان واضح بأن تل أبيب ستواصل فرض إرادتها بالقوة وترسم معادلة جديدة بالرصاص مهما ترتب على ذلك من تحديات سياسية وأمنية لسوريا ولبنان وللقوى الدولية المراقبة للوضع كما ان الزيارة شكلت تغطية سياسية لفضائح داخلية تهدد صورة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية مع العلم بان الجنوب السوري لم يعد اليوم مجرد خط مراقبة بل أصبح محطة استراتيجية معقدة التركيب تحمل في طياتها مخاطر أمنية وسياسية أكبر تشير إلى أن التحديات في المنطقة ستزداد خطورة مع أي خطوة إسرائيلية متهورة في المستقبل

في المحصلة الختامية نؤكد دائما ان الاحتلال لا يمنح صاحبه الشرعية ولا الاستقرار ولا القدرة على الاستمرار وهو حالة مؤقتة مهما طال عمرها ولا يمكن أن يكون أساسً لدولة تريد أن تبدو قوية وان الخطوة الإسرائيلية بطيشها ورعونتها سوف تفتح بابًا واسعًا للتساؤلات حول مستقبل اتفاقيات فض الاشتباك وقدرة سوريا ولبنان على الردع ومدى استعداد القوى الدولية للتعامل مع واقع جديد وخطير في جنوب سوريا بعدما وجه نتنياهو رسالة واضحة المعالم لكل اللاعبين الإقليميين والدوليين بأن إسرائيل ستستمر في فرض إرادتها بالقوة مهما كانت الظروف والمخاطر على الرغم من ان نتنياهو لم يدخل الأرض السورية المحتلة كقائد بل كغاصب يفتش عن مجد ضائع في مكان لا ينتمي إليه حيث يصر على البقاء فوق الأرض السورية ولو دقيقة واحدة إضافية ليقول لجمهوره ما زلت ( قوي وأستطيع ) لكنه في سكرة نشوته وغروره لا يعلم أن كل خطوة يقطعها في هذا الاتجاه تجعله اشبه برجل يحاول إنقاذ نفسه من السقوط عبر الاقتراب أكثر من نهاية الحافة

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية

[email protected]