اخبار تونس
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٢٦ حزيران ٢٠٢٥
كانت سجناً شرعياً للنساء خلال القرن الـ 19 يتعرضن فيه للإذلال والقهر حتى يعدن لبيت أزواجهن صاغرات
تقع عبارة 'دار جواد' على آذان النساء في تونس العاصمة وقعاً ثقيلاً ومؤلماً، إذ يعود تاريخ هذه المؤسسة للقرن الماضي، وتحيل إلى شكل من أشكال التنكيل بالمرأة الفاقدة حقوقها في مجتمع ذكوري، ينظر فيه إلى المرأة باعتبارها كائناً دونياً دوره هامشي وتابع للرجل.
'دار جواد' شاهدة على تاريخ من القهر والإيذاء والإذلال في تونس خلال عقود من الحكم العثماني، إذ تحكي أقبية الدار التي تعشش فيها الرطوبة قصصاً من الخوف والرهبة، إذ تعيش المرأة على الفتات وبقايا الطعام لتعتبر وتتوب وتثوب إلى رشدها، وتزيد صرامة 'الجايدة' التي تشرف على إدارة الدار المشهد قتامة، مما يدفع المرأة إلى الإذعان لزوجها وعائلتها.
وكانت 'دار جواد' كابوساً يتهدد كل امرأة تونسية في تلك الفترة وبخاصة في العاصمة، تتعدى حدودها ويشتكيها زوجها إلى دار القضاء الشرعي ليجري تحويلها إلى الدار حتى تستقيم ثم تعود لبيت الزوجية صاغرة تائبة، كما ترجع الفتاة الجانحة التي تخالف قوانين المجتمع آنذاك إلى عائلتها منكسرة بعد أن تعدل 'دار جواد' سلوكها، ولم يكن للمرأة في تونس وقتها من خيار سوى الانصياع والإذعان خشية التعنيف والاحتجاز في الدار.
كسر إرادة المرأة
وأينما وجدت المحاكم الشرعية وجدت هذه الدار التي تختلف تسميتها بحسب الجهات، فتسمى في محافظة صفاقس 'دار عدل' أي لتعديل سلوك المرأة، أو 'دار الثقة' أو 'دار السكنى' في جهات أخرى.
واستحدثت هذه المؤسسة في القرن الـ19 وجعلت لكسر إرادة وأنفة المرأة، بناء على حكم تصدره هيئة القضاء الشرعي، وهو غير قابل للاستئناف، وانتشرت في أكثر من محافظة من محافظات البلاد، والفضاء عادة منزل عتيق مهترئ يتكون من كثير من الغرف، يتوسطه فناء ويحوي مطبخاً وحماماً جماعياً.
وتسمى المكلفة برعاية النساء المودعات في 'دار جواد' بـ 'الجايدة'، وتحرص على التفنن في تعذيب هؤلاء النسوة نفسياً، فتفرض عليهن العمل في شتى المجالات مثل الخياطة والتطريز وغزل الصوف وغيرها، زيادة على تنظيف المنزل والطهي.
وإضافة إلى الإذلال الذي تعيشه المرأة والمهانة التي تتعرض لها يومياً، فإنها تقتات على فتات زهيد غير صالح للاستهلاك، كما أنها لا تحظى بساعات نوم كافية كنوع من العقاب لتحسين طباعها، ويمكن أن تدوم فترة الاحتجاز في دار جواد لأعوام أو بضعة أشهر بحسب حكم القاضي الشرعي.
ولم تسقط فكرة 'دار جواد' من الذهنية المجتمعية العامة عند التونسيين الذين تناقلوا أخبار هذه المؤسسة القضائية الشرعية، وفيهم من يرى أنها مثلت حقبة من تاريخ تونس ولت وانتهت، وشكلت لحظة من لحظات إهانة المرأة واستباحة حقوقها كإنسانة كاملة الحقوق، ومنهم من يعدها عقاباً منسجماً مع السياق التاريخي حينها، إذ يصعب الحديث عن حقوق المرأة في تلك الظرفية التاريخية.
'الجايدة' المرأة الغليظة والقاسية
ويؤكد الباحث في التراث، أنيس الورغي، في تصريح لـ 'اندبندنت عربية'، أن 'آخر دار جواد أغلقت في تونس خلال عشرينات القرن الماضي، ومع صدور مجلة الأحوال الشخصية تغير واقع المرأة التونسية تدرجاً على رغم أن النظرة الدونية للمرأة استمرت لعقود.
ويضيف الورغي أن 'المشرفة على الدار أو المعلمة أو الجايدة، هي عادة امرأة غليظة وقاسية وعنيفة يهابها النساء النواشز الموجودات في دار جواد، وتستعمل كل أشكال التعذيب من العصا والسوط وكذلك العزل والسجن الانفرادي والأعمال المنزلية الشاقة وقطع الأكل وتتراوح فترة العقاب من ثلاثة أشهر إلى أعوام'.
وقد تبقى المرأة الناشز التي ترفض التوبة لأعوام إلى أن تصبح مساعدة 'الجايدة' ومعينتها، تعول عليها في إدارة المؤسسة إلى غاية توبتها النهائية، ثم تعود لأهلها وقد تابت عسى أن تحظى بفرصة ثانية لبناء عش الزوجية من جديد، ويشير الباحث في التراث إلى أن القضاء الشرعي هو 'مؤسسة قانونية وقضائية شرعية وتتكون هيئة المحكمة من قاض من المذهب الحانفي وآخر مالكي ومقر المحكمة كان في مكتبة الديوان في مدينة تونس العتيقة'، ودار جواد' ليست خصوصية تونسية في القرن الـ19، بل كانت كثير من الدول العربية وحتى الأوروبية تعاقب المرأة بطرق مماثلة.
'دار جواد' وصمة عار
وعلى رغم إغلاق 'دار جواد' منتصف القرن الـ 20 بقرار جريء وثائر لحقوق المرأة وحريتها، فإنها لم تمح من ذاكرة التونسيين وبخاصة أولئك اللواتي عاصرن تلك الفترة، فظلت الحكايات المرعبة والمحزنة تتناقلها الألسن جيلاً بعد جيل، لتظل بمثابة الفترة الحالكة في تاريخ المرأة التونسية التي ناضلت من أجل القطع مع تقاليد وأعراف كانت بمثابة سيف مسلط على رقاب كل النساء التونسيات.
العمة رشيدة (76 سنة) تقطن في المدينة العتيقة نهج الباشا، روت قصصاً عن 'دار جواد' وكيف كانت المرأة تخاف هذه العقوبة، علاوة على أنها نوع من الوصم في العائلة والمجتمع، فالمرأة التي يحكم عليها بقضاء عقوبة في 'دار جواد'، تلحق العار بعائلتها الكبرى والصغرى، ويحدث أحياناً أن ترفض العائلة إعادة استقبال المرأة التي نشزت وحكم عليها بالالتحاق بـ 'دار جواد'، كما يحرص الزوج على ألا يعلم أهله أو أهل زوجته بالتحاق زوجته بـ 'دار جواد' لأن في ذلك وصماً اجتماعياً لا يمحى بمرور الزمن.
الحداد طالب بإغلاقها فاتهم بالزندقة
يشكل استحضار هذه الممارسات ضد المرأة التقاطاً لمظاهر من الإقصاء الذكوري في التاريخ المعاصر في تونس وعدد من الدول التي كانت تنزل المرأة في مراتب دونية، ويواجه كل من يرفض تلك الممارسات ضد المرأة مختلف أشكال التنكيل، وهو ما حصل مع المفكر والمصلح الطاهر الحداد الذي تبنى قضية حقوق المرأة والدفاع عنها في مجتمع ذكوري لا يتسع لمثل هذه القيم الإنسانية، فشنت ضده حملة شرسة انتهت حد اتهامه بالزندقة إثر صدور كتابه 'امرأتنا في الشريعة والمجتمع'.
وتناول الحداد في كتابه الأسباب الحقيقية وراء انتهاء الأمر ببعض النساء في 'دار جواد'، كما حلل النتائج النفسية والاجتماعية التي تسببها تلك الممارسات، داعياً إلى إغلاق هذه الدار، وبذلك كان أول مفكر ومناضل من أجل حقوق المرأة طالب علناً برفع القهر والظلم عن المرأة التونسية، وكتب الحداد 'لم تكن المرأة تعرف ما يجري حولها، إذ كانت لا تغادر البيت تماماً، وإذا عبرت عن سخطها بإهمال بيتها توضع في مؤسسة زجرية تسمى دار جواد لتأديبها، فيُضيّق عليها في طعامها وكسائها ولا تباح زيارتها إلا بإذن ومشقة حتى تثوب إلى رشدها'.
مجلة الأحوال الشخصية طوت الصفحة
كما حاولت كثير من الأعمال الفنية محاكاة تلك الحقبة التاريخية وتناول الظاهرة وما تواجهه النسوة داخل 'دار جواد' من أشكال التعذيب حتى يتبن ويعترفن بفضل أزواجهن عليهن، على غرار مسلسل 'عنبر الليل'، وفيلم 'الجايدة' للمخرجة سلمى بكار، وإثر ذلك ترجم الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة أفكار ورؤى الطاهر الحداد وغيره من المصلحين في مجلة الأحوال الشخصية التي أنقذت المرأة التونسية من براثن الجهل والحرمان والتنكيل، وطويت بذلك صفحة قاتمة من تاريخ المرأة في تونس.
ولئن باتت 'دار جواد' أثراً بعد عين فإن غلق المؤسسات في بعدها المادي لا يعني بالضرورة استئصال الفكرة المعيارية الدونية تجاه المرأة، والتي ما تزال سائدة إلى اليوم من خلال أشكال مختلفة من الممارسات الاقصائية التي تناضل المرأة في تونس وغيرها من البلدان لمحوها.