اخبار اليمن
موقع كل يوم -صحيفة ٤ مايو الالكترونية
نشر بتاريخ: ١ تشرين الأول ٢٠٢٥
4 مايو / تقرير: مريم بارحمة
تظل اللغة المهرية واحدة من أعرق اللغات السامية التي ما زالت حية على لسان أبنائها في جنوب الجزيرة العربية، شاهدة على تاريخ طويل وهوية حضارية راسخة، ومكوّن أصيل من مكونات الهوية الجنوبية التي يسعى المجلس الانتقالي الجنوبي إلى حمايتها وتعزيز حضورها في وجدان الأجيال. وبينما تتعرض لغات العالم اليوم لخطر الاندثار تحت ضغط العولمة وتسارع وسائل الاتصال الحديثة، برزت في المهرة جهود حثيثة ومبادرات نوعية لإحياء هذه اللغة العريقة وصونها باعتبارها إرثًا لا يقدّر بثمن.
لقد أدرك المجلس الانتقالي الجنوبي مبكرًا أن الهوية ليست مجرد شعارات سياسية أو مواقف آنية، بل هي روح أمة ومفتاح مستقبلها. ومن هنا جاء اهتمامه بالتراث الجنوبي بكل مكوناته، وفي القلب منه اللغة المهرية التي تمثل وعاءً جامعًا للذاكرة التاريخية والثقافية للمجتمع المهري، ورابطًا قويًا يوصل الحاضر بالماضي، ويمنح الجنوب تنوعًا ثقافيًا يعزز غناه وتماسكه.
-لغة ضاربة في عمق التاريخ
تُعد اللغة المهرية واحدة من اللغات العربية الجنوبية القديمة، التي سبقت ظهور العربية الفصحى بقرون طويلة، وظلت صامدة رغم تعاقب الحضارات وتبدل الأزمنة. وهي ليست مجرد وسيلة تواصل يومية، بل حاملة لموروث شعبي غني بالأمثال والحكايات والشعر الشفوي، إضافة إلى معارف تقليدية مرتبطة بالبحر والصحراء والحياة الاجتماعية.
هذا العمق التاريخي جعل من اللغة المهرية علامة فارقة في المشهد الثقافي الجنوبي، وركيزة أساسية للهوية المحلية في المهرة وسقطرى وأجزاء من حضرموت. غير أن هذه اللغة، كسائر اللغات المهددة بالانقراض، تحتاج إلى حماية ورعاية، وإلى برامج أكاديمية ومجتمعية تعيد لها ألقها وتضمن استمرارها في حياة الأجيال القادمة.
-اهتمام المجلس الانتقالي بالتراث واللغة
انطلاقًا من رؤيته الشاملة لتعزيز الهوية الجنوبية، أولى المجلس الانتقالي الجنوبي اهتمامًا خاصًا باللغة المهرية ضمن منظومة حماية التراث الثقافي. فقد عمل على دعم المراكز البحثية والأنشطة الأكاديمية التي تهتم بتوثيق هذه اللغة وتدريسها، وشجع على تنظيم الفعاليات الثقافية والفنية التي تبرز جمالياتها وأهميتها التاريخية.
كما أن المجلس أكد في أكثر من مناسبة أن حماية اللغة المهرية ليست مسؤولية أبناء المهرة وحدهم، بل هي واجب وطني جنوبي جامع، لأنها تمثل بعدًا من أبعاد الشخصية الجنوبية المتعددة والغنية. وفي هذا السياق، جاءت دعواته إلى إشراك المؤسسات التعليمية والإعلامية في نشر الوعي بأهمية اللغة وتعزيز استخدامها في الحياة اليومية والأنشطة الثقافية.
-يوم اللغة المهرية.. محطة سنوية للاحتفاء بالهوية
من أبرز المبادرات التي أسهمت في ترسيخ حضور اللغة المهرية إعلان الثاني من أكتوبر يومًا سنويًا للاحتفاء بهذه اللغة الأصيلة.
ويُذكر أن يوم اللغة المهرية لم يأتِ من فراغ، بل ارتبط بمحطة تاريخية مهمة؛ ففي الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2020م، احتفل أبناء المهرة بالذكرى الرابعة لإنشاء مركز اللغة المهرية، وأعلنوا حينها اعتماد هذا التاريخ مناسبة سنوية للاحتفاء بلغتهم الأصيلة. وقد شهدت مدينة الغيضة – عاصمة المحافظة – تدشين فعاليات “يوم اللغة المهرية”، التي نظمتها السلطة المحلية بالمحافظة بالتعاون مع مركز اللغة المهرية للدراسات والبحوث في جامعة المهرة ومكتب التربية والتعليم، تحت شعار معبّر: “اللغة المهرية إرث نصونه لأجيالنا”. هذا الحدث رسّخ المناسبة في وجدان أبناء المهرة والجنوب، وجعلها محطة سنوية لإبراز الهوية الثقافية واللغوية، وتأكيد مسؤولية الأجيال في صون هذا الموروث.
منذ ذلك التاريخ، تحوّل يوم اللغة المهرية إلى مناسبة وطنية ذات رمزية كبيرة، حيث يتوافد الأكاديميون والباحثون والمثقفون لإحياء الندوات والمعارض والأنشطة الأدبية والفنية، التي تحتفي بجماليات هذه اللغة وتستعرض جهود حمايتها. كما أصبح اليوم فرصة لتجديد العهد مع التراث، ولتعميق وعي الأجيال الجديدة بقيمة لغتهم وأهمية الحفاظ عليها.
-البعد الأكاديمي ودور مركز اللغة المهرية
يُعتبر مركز اللغة المهرية للدراسات والبحوث في جامعة المهرة حجر الأساس في مشروع إحياء اللغة. فمنذ تأسيسه، أخذ على عاتقه مهمة توثيق المفردات والتراكيب اللغوية، وجمع الموروث الشفهي، وإعداد دراسات أكاديمية تسهم في فهم بنية اللغة وتاريخها.
وقد شكّل المركز منصة أكاديمية للباحثين من داخل الجنوب وخارجه، وميدانًا لتعاون علمي دولي هدفه إبراز القيمة الحضارية للغة المهرية وإدماجها في المشهد اللغوي العالمي. ويعتمد المركز على تنظيم ورش عمل ودورات تدريبية تستهدف المعلمين والطلاب، بما يسهم في إدماج اللغة في المناهج التعليمية على المدى الطويل.
-الموروث الشفهي والفني
لا يمكن الحديث عن اللغة المهرية دون التطرق إلى ثرائها الشفهي والفني. فالمهريون يمتلكون تراثًا غنيًا من الأهازيج البحرية والأغاني الشعبية والقصص التي تُروى جيلًا بعد جيل، وكلها تُحفظ وتُنقل عبر اللغة الأم. هذا الموروث يمثل رصيدًا ثقافيًا هائلًا يمكن استثماره في تنشيط الحركة الثقافية والفنية في الجنوب.
وفي هذا السياق، عملت فعاليات يوم اللغة المهرية على إبراز هذا التراث من خلال المهرجانات والمعارض التي تستعرض الفنون التقليدية والمنتجات الحرفية، لتجعل من المناسبة حدثًا ثقافيًا متكاملًا يعيد الاعتبار للهوية المحلية ويرسخها في أذهان المجتمع.
-اللغة المهرية والهوية الجنوبية الجامعة
رغم خصوصيتها المحلية، فإن اللغة المهرية تُعد جزءًا لا يتجزأ من الهوية الجنوبية الجامعة. فهي تمثل أحد أوجه التنوع الثقافي الذي يثري الجنوب ويمنحه ميزة حضارية فريدة. وقد أكد المجلس الانتقالي أن هذا التنوع لا يُضعف الهوية، بل يعززها ويمنحها صلابة وقدرة على التكيف مع التحديات.
وبهذا المعنى، فإن الاحتفاء باللغة المهرية لا يقتصر على أبناء المهرة وحدهم، بل يهم كل أبناء الجنوب الذين يرون في هذه اللغة رمزًا لصمود هويتهم وتعدد ثقافاتهم.
-تحديات ومعوقات
وتواجه اللغة المهرية تحديات كبيرة، أبرزها ضعف التوثيق الأكاديمي وقلة المناهج التعليمية المعتمدة، فضلًا عن ضغط العولمة الذي يفرض هيمنة لغات عالمية على حساب اللغات المحلية. كما أن النزوح والهجرة والتمدن السريع أدت إلى تراجع استخدام اللغة في بعض الأوساط.
غير أن وجود يوم سنوي للاحتفاء بها، إلى جانب دعم المجلس الانتقالي الجنوبي والمراكز البحثية، يمثّل ركيزة قوية لمواجهة هذه التحديات، ويمهّد الطريق أمام استراتيجيات شاملة لإحيائها وضمان استمرارها.
-نحو رؤية مستقبلية
الطريق إلى حماية اللغة المهرية يمر عبر ثلاث ركائز أساسية:
-التعليم: إدماج اللغة في المناهج الدراسية على مستويات مختلفة، وتشجيع الأطفال على تعلمها واستخدامها في حياتهم اليومية.
-الإعلام: من خلال تخصيص برامج وإذاعات محلية ناطقة بالمهرية، بما يضمن حضورها في الفضاء العام.
-البحث العلمي: دعم الدراسات الأكاديمية التي توثق اللغة وتكشف عن أسرارها التاريخية واللغوية، وربطها بمشاريع دولية تهتم بحماية اللغات المهددة بالاندثار.
إن اللغة المهرية ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي هوية وروح وتاريخ. والاحتفاء بها كل عام في الثاني من أكتوبر هو رسالة واضحة بأن الجنوب متمسك بجذوره، مدرك لأهمية موروثه الثقافي، وواعٍ لمسؤوليته تجاه الأجيال القادمة. لقد شكّل المجلس الانتقالي الجنوبي بمواقفه ودعمه المتواصل سندًا حقيقيًا لهذه الجهود، وأثبت أن حماية التراث واللغة جزء لا يتجزأ من مشروعه الوطني. ومع استمرار الفعاليات والأنشطة البحثية والمجتمعية، فإن الأمل كبير في أن تبقى اللغة المهرية حية نابضة، تروي حكاية الجنوب للأبد.