اخبار الاردن
موقع كل يوم -صحيفة السوسنة الأردنية
نشر بتاريخ: ١٣ تموز ٢٠٢٥
أن يكون أمثال نورمان فنكلستين أو إيلا شوحات أو آفي شلايم أو إيلان بابيه أصحاب آراء معارضة أو رافضة أو انتقادية إزاء الفكر الصهيوني والسياسات الإسرائيلية، أمر يُلقي بهم مباشرة في خانة «اليهود كارهي الذات»؛ طبقاً للتصنيف الصهيوني، الذي تعتمده أيضاً مجموعات الضغط المناصرة لدولة الاحتلال هنا وهناك، وفي أوروبا والولايات المتحدة خصوصاً. ولسوف تنتظرهم تصنيفات أخرى، أشدّ تأثيماً وإقصاءً، إذا ذهب تضامنهم مع حقوق الشعب الفلسطيني إلى مستوى إدانة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية بعد 1967، وتثبيت سردية النكبة والتهجير وتدمير مئات القرى والبلدات، وبالتالي مراجعة الكثير من عناصر التلفيق في السردية الصهيونية عن اغتصاب فلسطين.
الأمر بات مألوفاً وكلاسيكياً ومتكرراً، إذن، إلى درجة لم تعد تبعث حتى على تثاؤب الملل، أو دهشة الحدود الدنيا كلما دخلت ضحية يهودية جديدة إلى صالة التأثيم. ما خلا أنّ التنويعات على رياضة التجريم تلك تأخذ، بين الحين والآخر، وجهة الإياب إلى تاريخ سابق على تأسيس الرياضة، وإلى مناخات وتيارات وأوساط يهودية تعود إلى مئات السنين، ولا صلة مباشرة تحيلها إلى صهيونية حرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة في قطاع غزّة.
المثال الأحدث هو رجوع الكاتب الصهيوني عوديد كوهن فاران (المقيم في تبليسي، جورجيا!) إلى الفيلسوف الألماني اليهودي تيودور لسنغ (1872-1933)، لإعادة تأطير تهمة كراهية الذات اليهودية، وإعادة توزيعها كيفما اتفق على يهود يتخذون هذا القسط الانتقادي أو ذاك من مآلات الصهيونية المعاصرة عموماً، وتجلياتها الفعلية في السياسات الإسرائيلية الراهنة خصوصاً.
صحيح، بالطبع، أن لسنغ أصدر في سنة 1930 كتابه «كراهية الذات اليهودية»، الذي ساجل ضدّ «ظاهرة مثقفين يهود حرّضوا على العداء للسامية ضدّ الشعب اليهودي، واعتبروا اليهودية مصدر الشرّ في العالم». ولكن الصحيح الآخر، الذي يتغافل عنه فاران وسواه، هو أنّ ذلك الفيلسوف كان صهيونياً شرساً ومشاكساً وعدوانياً؛ وخصوماته مع الآخرين تجاوزت حدود الخلاف الفكري أو السياسي أو الفلسفي أو الأدبي (كما في نزاعه مع الروائي الألماني الكبير توماس مان، أو جمهورية فايمار، أو مزالقه الأكاديمية). هذا عدا عن أنه، في ربيع 1931، قام برحلة طويلة إلى مصر وفلسطين واليونان، حيث اكتشف مسير «أبناء إسرائيل إلى أرض الميعاد» وتغنى بالمطامع الصهيونية الاستيطانية في أرض فلسطين، وكتب سلسلة رسائل سوف توضع لاحقاً في صلب أدبيات صقور الصهيونية.
وما دام المرء في سياقات ألمانيا خلال تلك الحقبة، فلعلّ النموذج الأوضح على ضحايا تأثيم اليهود لأبناء جلدتهم وديانتهم يظلّ كريستيان يوهان هنريش هاينه، الذي تتلمذ على يد هيغل، وصادق ماركس، والشاعر الذي لا يكفّ الألمان عن تلاوة قصائده الغنائية البديعة، خصوصاً تلك التي تحوّلت إلى مقطوعات موسيقية على يد موسيقيين كبار من أمثال شومان وشوبيرت ومندلسون. وكان الرجل قد صُنّف في خانة «اليهودي العاقّ» ليس بسبب ارتداده عن الديانة واعتناقه المسيحية، فحسب؛ بل لأنه أطلق العبارة الشهيرة: «اليهودية ليست ديانة. إنها كارثة». أكثر من ذلك، يتابع ناصبو مصائد التأثيم، كتب مسرحية بعنوان «المنصور»، يروي فيها تفاصيل اضطهاد المسلمين في إسبانيا أيّام محاكم التفتيش، ويسكت عن اضطهاد اليهود في المكان ذاته والفترة ذاتها.
وكما تغافل فاران عن صهيونية لسنغ، يتغافل «خبراء» سبر كراهية اليهودي لذاته عن حقيقة أنّ هاينه اعتنق المسيحية مكرهاً لا راغباً، وأنّ السلطات النازية فهمت هذه الحقيقة فوضعت أعماله في عداد 25 ألف كتاب أُحرقت في برلين سنة 1933. وفي جوهر رياضة التأثيم هذه، ثمة ذلك الشغف الصهيوني المَرَضي إلى احتكار موقع الضحية، حتى في صفوف بعض بناتها وأبنائها؛ بل هؤلاء أوّلاً، ربما!