اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٢٦ كانون الأول ٢٠٢٥
د. ملحة عبدالله
الأب إما مقتدرًا وساعيًا لملء الفجوات الاجتماعية، أو فقيرًا معدمًا يترك أبناءه على قارعة الطريق، وبطبيعة الحال تترك الأم النواة الأصل لهذا المجتمع لتبحث عن بديل آخر، وهذا ما نراه في نظام الخلع والطلاقات المتعددة، ويذهب الأبناء إلى جحيم مستعر ويتهاوى المجتمع لا محالة، وهذا هو جرس الإنذار لما نراه اليوم من ضياع جيل بأكمله في ظل ما نسميه بالأبوة الشبحية!
في ودٍّ أحيانا وفي عنفٍ أحيانا أخرى تلك هدير الأمواج، يوشوش الأصداف التي كنا نأخذها ونحن صغارا ونضعها على آذاننا ونسمع فيها هدير أو وشوشة الموج فيها. نعتقد آنذاك وبكل فطرية أن الأمواج قد دخلت في تجاويفها والتواءاتها فننصت لها، تلك العلاقة الأزلية بين البحر وأصدافه، علاقة سطوة مرة ومحبة وعطاء مرة أخرى، علاقة منتجة في ديمومة أزلية وفي الغالب أنها علاقة منتجة لخيرات لا حصر لها إذا ما أحسنا التعاطي معها.
كنت على شاطئ البحر أتأمل في خشوع قوة الله وعطائه بلا حساب لهذا الكائن البشري الذي هو نحن، فكان في موج هادر يقذف ببعض محتوياته على الرمال من أسماك وسرطانات وحبارات وأصناف متعددة من القواقع بين أيدينا، وكأنه يقول لنا هاكم ولكن لابد أن تفعلوا، وها أنا ذا مليء بالجواهر وألوان الصيد ولكن أين أشرعتكم وشباككم، فأنا لا أعطي كل متمنٍ قابع، يحلم بالثروة ثم يسب العالم لأنه لم يهدها إياه بشكل سريع وهو في ساحات المقاهي وردهات الحفلات وفضاءات العالم الافتراضي.
المسألة هنا ليست في بحر وأصداف وعمليات صيد وحبارات ولآلئ، ولكنها حالة من الانعكاس على واقعنا وعلى ما يتذمر منه الشباب الطامح للثروة الهابطة سريعا وعاجلا غير آجل!
أين تكمن المشكلة؟ وهل عجزنا عن فهم العالم؟ وهل يقف شباب اليوم يبحثون ثم يتذمرون ثم يقذفون بكل شباك الصيد في يأس مستمر! والسبب الرئيس هو التطلع السريع للثروة والآمال والطموحات غير ذات أسس مبنية وخاصة في عالم اليوم أصبح عالما رأسماليا متوحشا يسحق بين أنيابه الطبقة الوسطى التي تلاشت للأسف الشديد، والتي هي بطبيعة الحال صمام الأمان لكل البنية الاجتماعية، والتي هي عروته الوثقى بين أثرياء متوحشين وفقراء وعمال وفلاحين، فهي رمانة الميزان التي تعمل على كل هذا التوازن الاجتماعي والتي إذا ما لحظنا البنية الاجتماعية ونتذمر من خلل واضح في كل أساليب الحياة المعاصرة من عادات وقيم وشيم ومروءات وغير ذلك فإنما يرجع ذلك لتآكل هذه الطبقة التي أوشكت على الاندثار وهذا خطر كبير ونحن نعيشه الآن للأسف.
إن كل ما يهمنا هنا هو جيل الشباب الذين تبنى عليهم قواعد الأيدولوجية المجتمعية والتي لا يخفى على أحد أن صناعتهم هي صناعة وطن بلا ريب.
إننا نرجع الأمر برمته إلى اللبنة الأولى من البناء الاجتماعي الذي كان في الماضي القريب يتكون من سلطة المركز (الأب) ثم القوة النائبة وهي الأم ثم نخرج إلى حقل الولاية وهو المتمثل في الأعراف والقوانين، وسلطة المجتمع، فقد كان لدينا في الماضي القريب زمان، ما يسمى «Social Safety « (شبكة أمان اجتماعي) بحيث يتربى الشاب في محيط اجتماعي يحاسبه، بل يقف إلى جانبه إذا ما احتاج إليه؛ مثل صهرك، العائلة الكبيرة، كبير المنطقة، خالك، عمك، وحتى مدرسك، كانت الرجولة مكتسبة ومتنامية في حضن حقل الولاية، وهذا ما كانت فلسفة علم الاجتماع وما تركه لنا العلماء في هذا الصدد.
البحر لا يهدي جواهره لكل متمنٍ ولا يسعى خلف الأمنيات، بل ينشد الشراع ينشر على قوارب الأهداف الحقيقية غير البعيدة أو الزائفة، ولذا كان يزمجر كلما شعر باللعب العبثي بين أمواجه وأحيانا يقتل مثلما نراه في موت المئات من أصحاب الهجرة غير الشرعية في بعض الدول، لأن الطموح كان أكبر من المأمول، والأهداف أكبر من الأمنيات، والواقع لا يرحم، ولذا لم نعد هذا الجيل على تدرج الخبرات وتحقق الأهداف تدريجيا بل إن سلطة المركز وهي قمة التحكم أصبحت هي الهدف بلا حول ولا قوة وهنا تكمن المشكلة.
ثانيا غياب الأب عن الأبناء في مرحلة الإعداد المبكر هي أحد هذه الأسباب. فالأب أصبح مشغولا إما بالعمل خارج البلاد، أو بالسعي لسد ثغرة عجز لا يستطيع ملؤها إذا ما تفرغ لتربية ابنه وملاحظته وإعداده كفارس قادم، ذلك لأن الأم ينتهي دورها بعد انتهاء الطفولة المبكرة. ومن هنا يصبح الشاب اتكاليا حالما، أو معتمدا على أب يسعى ليلبي طلبات بلا هوادة.
تقول إحدى الدراسات العلمية: أصبحنا الآن في عصر الأسرة النووية المعزولة، فالوالد للأسف يطحن في ساقية الرأسمالية، فأصبح فهم النظام أن دوره يتحول هذا الوالد لـ(ATM) متحرك.. يجري طول اليوم من أجل أن يحضر له iPhone والبراندات، معتقدا أن هذه هي الأبوة! ونسي نظام القيم والأخلاق يكتبه له الإنترنت ونتفليكس! والنتيجة؟ جيل كامل به عطل في شخصيته.. تشوهات نفسية لا نراها إلا خلف أبواب العيادات نتاج الفراغ اللي تركه الأب فارغا».
هذا إذا كان الأب مقتدرا وساعيا لملء الفجوات الاجتماعية، أما إن كان فقيرا معدما فيترك الأبناء على قارعة الطريق، وبطبيعة الحال تترك الأم النواة الأصل لهذا المجتمع لتبحث عن بديل آخر، وهذا ما نراه في نظام الخلع والطلاقات المتعددة، ويذهب الأبناء إلى جحيم مستعر ويتهاوى المجتمع لا محالة، وهذا هو جرس الإنذار لما نراه اليوم من ضياع جيل بأكمله في ظل ما نسميه بالأبوة الشبحية!










































