اخبار الاردن
موقع كل يوم -صحيفة السوسنة الأردنية
نشر بتاريخ: ٢٣ حزيران ٢٠٢٥
في المشهد الاقتصادي الأردني، لا تزال البطالة تتصدر المشهد بوصفها التحدي الأكبر الذي يهدد الاستقرار الاجتماعي ويقوّض فرص النمو. فالمؤشرات الرسمية تتحدث عن نسب بطالة مرتفعة، خصوصًا بين الشباب وخريجي الجامعات، ما يفتح الباب أمام تساؤلات مشروعة حول جدوى السياسات التشغيلية الحالية وقدرتها على إنتاج تحوّل حقيقي في بنية سوق العمل.
المشكلة لم تعد تكمُن في نقص الكفاءات، بل في غياب رؤية وطنية متكاملة تربط هذه الكفاءات بمسارات إنتاجية واضحة داخل الاقتصاد. وما نشهده حاليًا هو تعدد الجهات، وتشتت المبادرات، وضعف التنسيق بين التعليم، والتدريب، والطلب الفعلي في السوق. وبينما تتراكم الشهادات، تتآكل الفرص، وتتسع الفجوة بين طموحات الشباب وما هو متاح على أرض الواقع.
في المقابل، تشهد دول عديدة في الإقليم تحولات بنيوية لافتة في إدارة سوق العمل، على رأسها المملكة العربية السعودية، التي استطاعت في عام واحد فقط أن تستوعب أكثر من 360 ألف مواطن في سوق العمل، وتحقق نسب تشغيل تجاوزت 97%، مع قفزات نوعية في تمكين المرأة وتحفيز القطاع الخاص. هذه التجارب لا تعني تقليد النماذج، بل تؤكد أن الإرادة السياسية حين تتوافر، تُحرّك المياه الراكدة وتصنع الفارق.
الأردن بحاجة إلى نقلة نوعية لا تعالج البطالة كرقم بل كعرض لأزمة أعمق. أزمة تبدأ من بنية الاقتصاد الذي لا يولّد ما يكفي من فرص، ولا يمنح القطاع الخاص الحوافز الكافية للتوسّع، ولا يربط بين التعليم والتشغيل بخيوط مؤسسية واضحة. وفي ظل هذه المعطيات، فإن الإصلاح الجزئي لم يعد مجديًا، ولا بد من تبنّي مشروع وطني شامل لإعادة تشكيل سوق العمل.
هذا المشروع يتطلب إنشاء جهة وطنية مستقلة، ذات طابع تنفيذي، تُعنى بتقييم الفجوات، وتحليل مخرجات التعليم، وتصميم سياسات أجور مرنة، وربط التوظيف بالتدريب والتأهيل المهني. ومما يعزز الحاجة لهذا الكيان أن تجارب سابقة مثل 'هيئة تنمية وتطوير المهارات المهنية والتقنية' لم تحقق الأثر المطلوب بسبب ضعف التنسيق بين الجهات، وغياب الصلاحيات التنفيذية، وافتقارها إلى الربط المباشر مع احتياجات القطاع الخاص، مما جعلها في كثير من الأحيان جسدًا بلا أدوات.
التوظيف في عصر ما بعد الجائحة لم يعد مرادفًا للوظيفة الحكومية، بل أصبح مفهومًا أوسع يشمل العمل الحر، والاقتصاد الرقمي، والمهن التقنية، والتخصصات غير التقليدية. وهذا يتطلب تحولًا ثقافيًا في العقلية المجتمعية أيضًا، بحيث لا يُختزل النجاح في الوظيفة الثابتة، بل يُعاد تعريفه وفق معايير الكفاءة والإنتاج والابتكار.
لقد أثبتت التجارب أن الرواتب المرتفعة ليست وحدها كافية لاستقطاب الكفاءات، بل البيئة المؤسسية، وفرص النمو، وثقافة العمل، جميعها عوامل تصنع الجاذبية والولاء المهني. وفي الوقت الذي تبلغ فيه مشاركة المرأة في سوق العمل السعودي 34.5%، لا تزال في الأردن دون 15%، رغم أنها تشكل أكثر من نصف خريجي الجامعات، في مفارقة صارخة تكشف عن طاقات مهدورة وسياسات غير محفزة.
ليس المطلوب نسخة أردنية من 'رؤية 2030'، بل خطة تشغيل وطنية مرنة، قابلة للتنفيذ، تقودها المؤسسات لا الشعارات، وتُبنى على الحقائق لا الأمنيات. الأردن يملك من الموارد البشرية والتعليمية ما يكفي، لكنه بحاجة إلى قرار جريء يُحوّل هذا الرصيد إلى طاقة إنتاجية شاملة.
اللحظة الراهنة لا تحتمل التردد، فالمنافسة الإقليمية تتسارع، والأسواق تُعاد تشكيلها، ومن لا يغيّر موقعه بإرادته قد يُدفع خارجه. لذلك فإن الرهان اليوم ليس على الحلول الجزئية، بل على التحوّل العميق، الذي يعيد للأردني الثقة، ويعيد لسوق العمل توازنه، ويمنح الدولة مناعة تنموية في وجه التحديات القادمة.