اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٦ تشرين الثاني ٢٠٢٥
حين يشرّع الكنيست الموت: إسرائيل تُقنّن الانتقام باسم العدالة #عاجل
كتب زياد فرحان المجالي
في المساء الذي صوّت فيه الكنيست على مشروع قانون إعادة العمل بعقوبة الإعدام، بدت قاعة البرلمان الإسرائيلي وكأنها مسرح لطقسٍ قومي أكثر منها مؤسسة تشريعية. النواب يصفقون، الكاميرات تتقافز، والعبارات تملأ الهواء: 'من يقتل بدافع قومي يجب أن يُقتل”.
لكن خلف تلك الجملة المختصرة كانت تختبئ أزمة هوية كاملة تعصف بإسرائيل منذ عامين من الحرب في غزة؛ دولة تبحث عن الردع في نص القانون بعدما فقدته في الميدان، وتخترع لنفسها 'عدالةً مسلحة” لتستعيد عبرها شعور السيطرة المفقود.
لم يكن التصويت حدثًا قانونيًا بحتًا، بل مشهدًا نفسيًا وسياسيًا مركّبًا، إذ تتداخل فيه عقدة الأمن مع هاجس الانتقام، ويختلط فيه صوت البرلمان بصوت المدفعية. القانون الذي أقرّه اليمين بضغط من إيتمار بن غفير وتكتل الصهيونية الدينية، لا يُعاقب الفعل بقدر ما يُصنّف الهوية: فكل فلسطيني متهم بدافع قومي، يصبح مهيأً لحكمٍ بالموت.
من النص إلى الغريزة
منذ عام 1962، حين أُعدم أدولف آيخمان، ظلّ الإعدام في إسرائيل استثناءً تاريخيًا محصورًا في الخيانة وجرائم الحرب. المادة 39 من قانون العقوبات حدّدت ذلك بوضوح. غير أن مشروع الكنيست الأخير وسّع التعريف ليشمل 'الجرائم ذات الدافع القومي”، وهو ما يعني عمليًا أن القانون لم يُكتب لمواجهة الجريمة، بل لتعريف العدو.
في دولةٍ تأسست على فكرة 'الضحايا الذين يبحثون عن العدالة”، يرمز هذا التحول إلى لحظة انقلاب أخلاقي: من العدالة التي تحمي الحياة إلى العدالة التي تمنح الشرعية للموت. فالقانون لم يعد يبحث عن الردع، بل عن التطهير المعنوي، أي أن يتحول القتل إلى فعلٍ مشروعٍ باسم الدولة لا جريمتها.
هذا النص الجديد لا يردع 'الإرهاب”، بل يردّ على الهزيمة. فبعد حربٍ طويلة في غزة وانكشاف عجز الجيش عن الحسم، وجد الساسة في الكنيست وسيلةً رمزية ليقولوا للشارع الإسرائيلي إن الدولة ما زالت تملك القوة، حتى لو كانت على الورق فقط.
العدالة المؤدلجة
بموجب الصياغة الجديدة، يصبح الإعدام إلزاميًا إذا ثبُت أن الدافع قومي أو عنصري، ما يعني أن القاضي يفقد سلطة التقدير ويصبح مجرّد مُنفّذ لقرارٍ سياسيٍّ مُسبق.
هنا، تتحول العدالة إلى إدارةٍ أمنية، وينتقل القضاء من موقع الحكم إلى موقع الشاهد. وقد حذّر المستشار القانوني للكنيست من أن 'المشروع يقوّض مبدأ المساواة أمام القضاء”، لكن الأصوات العقلانية ضاعت وسط ضجيج 'الكرامة الوطنية”.
حتى 'جمعية الحقوق المدنية في إسرائيل (ACRI)” وصفت المشروع بأنه 'تشريع تحت الضغط الانتقامي”، فيما اعتبرت منظمة 'بتسيلم” أنه 'يمنح غطاءً قانونيًا للعقوبة السياسية ضد الفلسطينيين”، مؤكدة أن الدولة تخلّت عن آخر مظاهر الحذر القانوني الذي ميّزها لعقود.
في المقابل، احتفى بن غفير بالتصويت قائلًا: 'اليوم أعدنا للردع روحه”. لكنّ الواقع، كما تقول صحيفة هآرتس، هو أن إسرائيل تُشرّع الخوف لتبرّر ضعفها.
القانون كسلاحٍ سياسي
المفارقة أن العقوبة لم تعد مجرد وسيلة ردع، بل تحوّلت إلى أداة تفاوض. فمع تعثّر صفقة تبادل الأسرى مع غزة، أراد نتنياهو أن يلوّح بهذا التشريع كورقة ضغط أمام حماس والعالم الخارجي.
الجنرال غال هيرش، منسّق ملف الأسرى والمفقودين، قال أمام اللجنة البرلمانية: 'لن نُعيد أبناءنا بالتوسل، بل بالخوف”.
هكذا يصبح الإعدام عملةً سياسية: يُشهر داخليًا لإرضاء اليمين، ويُخفف خارجيًا في لحظة المقايضة.
إنها عودة إلى منطق القوة الرمزية الذي رافق اليمين الإسرائيلي منذ تأسيسه — من مناحيم بيغن إلى نتنياهو — حيث يُستعمل التشريع لا لتنظيم الدولة، بل لتأكيد تفوقها الأخلاقي الزائف على 'عدوها الأبدي”.
من آيخمان إلى غزة… العدالة تنقلب على نفسها
حين أُعدم آيخمان في القدس قبل أكثر من ستين عامًا، كان العالم يرى في إسرائيل 'الضحية التي تحاكم جلادها”. أما اليوم، فإن الدولة نفسها تعيد مشهد المقصلة، لكن بوجهٍ مقلوب؛ فهي التي تملك الجلاد، وتختار الضحايا من بين الأسرى الفلسطينيين.
بهذا المعنى، لم تعد المقصلة رمزًا للعدالة بل رمزًا لوراثة الخوف، وكأنّ إسرائيل لا تستطيع البقاء إلا بإعادة تمثيل موتٍ يمنحها معنى وجودها.
تلك المفارقة ليست قانونية فقط، بل وجودية: الضحية التي كانت ترفع شعار العدالة العالمية، باتت تشرّع الإعدام لتقول للعالم إنها 'الاستثناء المبرّر”.
انكشاف البنية الأخلاقية
القانون الجديد يكشف تصدّع منظومة الردع في إسرائيل أكثر مما يُعيد ترميمها. فالجيش الذي فشل في فرض هيبته على غزة، يبحث عن نصرٍ بديل في المحكمة. والقضاء الذي كان يُقدَّم كنموذجٍ للديمقراطية، صار أداة لتطبيع الغريزة.
لقد فقدت إسرائيل قدرتها على التفريق بين القانون والانتقام، بين المحاكمة والإعدام، بين الردع والعقوبة. وكلما طال أمد الحرب، ازداد عطشها لتشريع الموت كي تشعر بأنها ما زالت تسيطر.
في المرايا الدولية
ردود الفعل العالمية على المشروع كانت باردة لكنها واضحة. الاتحاد الأوروبي اعتبر القانون 'انحرافًا عن الالتزامات الحقوقية”، فيما رأت هيومن رايتس ووتش أنه 'يشكّل بداية انهيار المنظومة القانونية الإسرائيلية أمام الشعبوية السياسية”.
حتى داخل إسرائيل، حذّر بعض القضاة المتقاعدين من أن التشريع 'سيفتح الباب أمام إعدامات ميدانية بلا محاكمات”. ومع ذلك، مضى اليمين في طريقه، وبدأ يتحدث عن القانون باعتباره 'درعًا للأمن القومي”.
بهذا، يصبح المشروع خطوة رمزية نحو دولة لا تخشى أن تُعلن نفسها فوق القانون الدولي، في وقتٍ تتزايد فيه الضغوط أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي بشأن جرائم الحرب في غزة وسديه تيمان.
من الردع إلى الانتحار المعنوي
العدالة حين تتحول إلى سلاح، تقتل معناها قبل أن تقتل ضحاياها.
ما يفعله الكنيست اليوم لا يرسّخ الأمن بل يزرع اليأس في مجتمعٍ يعيش على حافة الخوف. فالإعدام، كما يقول فقهاء القانون الجنائي، لا يردع الجريمة بقدر ما يؤسس لدورةٍ جديدةٍ من الثأر.
وإذا كان القانون يُفترض أن يحمي الدولة من نفسها، فإن إسرائيل بهذا التشريع تُعلن أنها لم تعد واثقة حتى من ضوابطها الأخلاقية.
خاتمة: موت القانون باسم الحياة
في الجوهر، لم يكن تصويت الكنيست مجرد إجراءٍ تشريعي، بل إعلانًا عن لحظة انكسارٍ حضاري: الدولة التي طالما تغنّت بأنها 'واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط”، تُشرّع الموت لتستعيد شعورًا زائفًا بالأمان.
فكل حكمٍ بالإعدام في هذه الحرب لن يُطفئ النار، بل سيشعلها داخل روح المجتمع الإسرائيلي ذاته. وكل قرارٍ بالموت، هو موتٌ للقرار نفسه.
القوة التي تُقاس بالمقصلة ليست قوة، بل اعترافٌ بالعجز. وإسرائيل التي تشرّع الانتقام باسم العدالة، تُقنّن سقوطها الأخلاقي باسم البقاء.
المصادر:
هآرتس (3 تشرين الثاني/نوفمبر 2025) – كان 11 – مكور ريشون – موقع الكنيست الرسمي – بيانات ACRI وبتسيلم – تقارير هيومن رايتس ووتش والاتحاد الأوروبي












































