اخبار تونس
موقع كل يوم -أنباء تونس
نشر بتاريخ: ٣ أيار ٢٠٢٥
ثمة أصوات تتجاوز الزمن وتوقظ الشعوب. في الثالث والعشرين من يوليو عام 1952، انطلق من إذاعة القاهرة صوتٌ أعلن نهاية نظام قديم وبداية أمل جديد. خلف هذا الصوت، كانت هناك روحٌ وإرادة لرجل قدّر له أن يجسّد هذه الثورة : جمال عبد الناصر.
خميس الغربي
حين سُمعت عبارته الشهيرة: 'إرفع رأسك يا أخي العربي، فأنت مواطن عربي حرّ، في أرض عربية حرّة يتربص بها الأعداء' لم تكن مجرد جملة سياسية عابرة. بل كانت زلزالاً في نفوس الملايين من الرجال والنساء المستَعمَرين، من المهانين، من المنكوبين. في لحظة واحدة، اجتاح نفسٌ جديد في أفريقيا وآسيا، بل وتجاوزهما. شعورٌ بالكرامة المستعادة، لشعب يقف من جديد على قدميه استجابة لصوت اخترق كل الحدود الاستعمارية.
نعم، يمكن انتقاد الأخطاء السياسية، والإخفاقات الاستراتيجية، والانحرافات السلطوية في نظامه. لكن لا يمكن إنكار ما أعطاه جمال عبد الناصر للشعوب العربية من المحيط إلى الخليج : الفخر، والوعي، والكرامة. وكان من أوائل من رفعوا راية التحرر من الاستعمار، ومن دعموا بلا كلل حركات التحرير — من تونس إلى الجزائر، ومن ليوبولدفيل إلى أكرا — ومن حملوا صوت الشعوب المكبّلة إلى قمة باندونغ، جنباً إلى جنب مع نهرو، وتيتو، وسوكارنو.
من الخطأ اختزال جمال عبد الناصر في نكسة 1967، فذلك إنكار لما مثّله لملايين الجاثمين تحت سطوة الاستعمار سابقاً. لقد كان، مع آخرين، من مؤسسي حركة عدم الانحياز، ومنح ما يُعرف اليوم بـ”الجنوب العالمي” صوتاً قوياً ومشرّفاً. ساند نضالات التحرر في أفريقيا، خاصة في الجزائر وتونس والكونغو. وتجرأ على تأميم قناة السويس متحدياً القوى الاستعمارية، مستعيداً الكرامة العربية. صحيح أن نظامه لم يخلُ من المظالم، وأن حلمه بالوحدة العربية قد تعثّر. لكنه يظل أحد أعمدة التحرر في القرن العشرين. والتاريخ، كي يكون منصفاً، لا بد أن يحكم بعدل، لكنه لا ينسى.
لقد كان تأميم قناة السويس سنة 1956 عملاً سيادياً غير مسبوق. تحدى به إمبراطوريات آيلة إلى الزوال، وزعزع يقين الغرب الإمبريالي. هذا هو جمال عبد الناصر أيضاً : مقاومة لثقافة الاستسلام، ورفض للمهانة، وبناء لمستقبل عربي مستقل.
ومع ذلك، يخرج علينا اليوم من يختزل كل هذا في نكسة عسكرية. وينسون، أو يتناسون، أن تاريخ الشعوب لا يُختصر في معركة خاسرة، بل يُقاس بما يتركه من أثر دائم : وعي جماعي، ذاكرة مشتركة، وكرامة مستعادة. الطعن في ذاكرة جمال عبد الناصر، في هذه المرحلة بالذات، مرحلة ضعف الحلم القومي العربي، أشبه بطعنة في ما تبقى لنا من أفق، من روح، من روابط ومن آمال.
لا، ليست كلماتي حنيناً إلى الماضي، بل هي وفاء للذاكرة. هي رفض للجحود والنسيان. وهي قبل كل شيء، تحية لذلك الزمن النادر الذي نطقت فيه كلمة عربية، قوية وواضحة، لتقول لنا : ارفع رأسك يا أخي العربي، فأنت مواطن عربي حرّ، في أرض عربية حرّة يتربص بها الأعداء' . وهذه العبارة، لمن سمعها حقاً، لا تُقدّر بثمن.
أما أنا، فلن أنسى أبداً ذلك الأربعاء، 23 يوليو 1952. كنت في الثامنة من عمري. في ذلك الوقت، وعندما كنا عائدون من المدرسة، رفعنا رؤوسنا للمرة الاولى و إلى يومنا هذا والى إذ، شعرنا أننا في وطننا، في أرضنا رغم وجود الاحتلال الفرنسي… لكن ليس لوقت طويل.
ثمة رجال لا يفارقهم التاريخ أبداً. عظمتهم لا تُقاس بانتصارات عسكرية أو منجزات مادية فقط، بل بما يزرعونه في وجدان الشعوب. ففرنسا مثلا لا تزال تكرّم نابليون رغم هزائمه، لأنه جسّد طموحاً وزمناً وروحاً. وكذلك جمال عبد الناصر، بالنسبة للعالم العربي، سيظل تلك القامة الكبيرة، التي أيقظت بأقوالها وأفعالها كرامةً منسية. ان الشعوب لا تحتفظ بصورة الإنسان الكامل، بل بذلك الذي يعبّر عن أحلامها، ونضالها، وتطلعاتها للحرية.
وهكذا، يصبح العظماء خالدين.
كاتب و مترجم.