اخبار تونس
موقع كل يوم -أنباء تونس
نشر بتاريخ: ٢٢ تشرين الثاني ٢٠٢٥
كلما يغادر الإنسان وطنه، يكتشف أنّ المسافة لا تُباعده عنه كما يَظنّ، بل تُقرّبه منه بطريقة دقيقة وعميقة. الوطن الذي نعتاد تفاصيله حتى يكاد يفقد تأثيره فينا، يتجلى فجأة حين ننظر إليه من بعيد: نرى ما كنّا نغفله، ونُصغي لما كنّا نتجاهله. وفي المقابل، تظهر العيوب أيضًا بوضوح: ضعف أداء بعض المؤسسات، غياب الانضباط، وتلك الهوة المؤلمة بين أحلامنا لتونس وما ننجزه فعليًا.
العقيد محسن بن عيسى
بهذا المعنى، يصبح السفر امتحانًا للرؤية وللذاكرة معًا. نغادر ونحن نحمل صورة عن وطننا، ثم نكتشف أنّ هذه الصورة قابلة للمراجعة بمجرد الاحتكاك عالمًا جديدًا بقواعد وثقافته مختلفة تمامًا. وهنا يبرز السؤال: كيف يرانا الآخرون؟ وكيف تتحول تصرفاتنا اليومية إلى 'لغة' تحمل معها اسم تونس دون أن نتفوه به؟
بين الهوية والاندماج
الدول لا تُعرَف فقط عبر سياستها أو اقتصادها، بل من خلال سلوك أبنائها ومكانتهم في الخارج أيضًا. لذلك، يصبح كل تونسي- أينما حلّ- حاملًا لظلّ وطنٍ كامل.
الهجرة هنا ليست انتقالًا جغرافيًا فحسب، بل اختبار يوميّ للهوية. كيف نحافظ على جذورنا دون انغلاق؟ وكيف نندمج دون ذوبان؟
هذا التوازن ينعكس في كل التفصيل الصغير: طريقة التحية، احترام المواعيد، الالتزام بالقانون، أسلوب النقاش، وحتى النظرة إلى العمل والمسؤولية. كل هذه العناصر تُجمَع في الذاكرة الجماعية للمجتمع المضيف، فيتحوّل الفرد إلى سفير عمليّ، بصرف النظر عن نيّته أو موقعه.
السفير الرسمي يعمل وفق بروتوكولات معروفة، أمّا “السفير الحقيقي” فهو ذلك التونسي العادي الذي يلتقي الموظف والجار وزميل العمل … نظرة واحدة، موقف واحد، قد يُختزل في ذهن الأخر كأنه “طبيعة شعب كامل”. وهنا تكمن قوة الصورة وخطورتها في آن واحد.
نجاح الفرد يرفع صورة بلده، وتعثره يجرها خلفه. لكن تحميل الفرد كامل مسؤولية الانطباعات العامة ظلمٌ كبير، لأنّ خلف كل سلوك فردي منظومة كاملة أنتجته وساهمت في تشكيله.
الوجه الخفيّ للهجرة
تُظهر الأرقام أنّ عدد التونسيين بالخارج يتجاوز 1.7 مليونًا تقريبا، منهم حوالي 10% في الدول العربية. لكن خلف هذه الأرقام حياة كاملة لا تُروى دائمًا. الهجرة التونسية ليست كتلة موحدة، بل طيف واسع: من أصحاب الكفاءات العالية الذين يشغلون مناصب مُعتبرة، إلى من يعملون في وظائف متواضعة، إلى من يجدون أنفسهم خارج سوق العمل، بل وحتى البعض الذي ينزلق نحو وضعيات غير قانونية.
هذه الصورة غير المريحة تعكس، بطريقة قاسية وصريحة، ما يحدث في الداخل: بطالة طويلة، انسداد أفق، وإحباط اجتماعي يدفع الكثيرين إلى المغادرة دون استعداد كافٍ أو حماية حقيقية. وغالبًا ما تكون الضحية الأولى هي الصورة العامة للوطن، لأنّ المجتمع المُضيف لا يهتم بالخلفيات، بل بما يراه مباشرة.
من غير العادل إذن اختزال كل شيء في “اختيار فردي”. فالدولة التي لا ترعى أبناءها في الداخل، ستدفع ثمن ذلك في الخارج أيضًا. وإن كانت تسعى فعلاً لصورة مشرّفة، فعليها أن تبدأ من تحسين خدمات بعثاتها ومرافقة كل الفئات دون استثناء، وخاصة “غير النظاميين” الذين يعيشون أكثر الأوضاع هشاشة.
ومع ذلك، فإن كثيرين ممن التقيتُهم في الخارج يحملون شرارة لا تنطفئ: انتماء صامت يتجدد كلما التقوا بابن البلد. رغم صعوبة ظروفهم تراهم يدافعون عن وطنهم بصفاء عجيب، بتلقائية نبيلة، يشرحون ثقافتهم، يتقنون اللغات الأجنبية، ويُظهرون وجهًا حضاريًا ربما لم ينتبهوا إليه من قبل.
المسافة توقظ شيئًا قديمًا في القلب: حنين يمتزج بكرامة، ووعدًا صامتًا بأن تكون صورة الوطن كما يجب أن تكون.
صورة الوطن: مسؤولية مشتركة
حين يغادر التونسي يحمل معه أكثر من حقيبته: يحمل صورة لبلده، وصورة لنفسه كما يتخيّلها وكما سيعيد الآخرون تشكيلها. في الخارج لا قيمة للشعارات، السلوك وحده يتكلم. الطالب والعامل والموظف والباحث وغيرهم… كلهم مرايا مزدوجة : يرون أنفسهم بعيون الآخرين، ويراهم الآخرون من خلال ما يفعلونه لا ما يقولونه.
ولكي نخلق صورة متينة لتونس في العالم، نحتاج إلى أساس صلب، تضعه الدولة والمجتمع والمواطن معًا:
أولا، ثبات في الجذور يحضر التاريخ والذاكرة والقيم في الحياة اليومية، لا كشعارات، بل كوعي حيّ وممارسات ملموسة. وثانيًا، عدالة واضحة ومرئية في وطن يشعر فيه المواطن بأنّ حقّه مُصان وأنّ القانون يحمي الضعيف قبل القوي.
إلى جانب ذلك، نحتاج لتنمية متوازنة : فرص عمل حقيقية وتعليمًا محترمًا وصحة متاحة للجميع، دون التفريط في القيم الأصيلة التي تشكّل هويتنا. وبالتوزي مع هذا كله، احترام الإنسان حقيقي يتمثل في تعامل راقٍ بين المواطنين، حيث الاختلاف مصدر قوة لا تهديد. وأخيرًا، مشاركة فعلية حيث يسمع المجتمع آراء مواطنيه واقتراحاتهم، ويجعل صوتهم قادرًا على تغيير المسار.
صورة تونس ليست قَدَرًا محتومًا، بل صناعة مشتركة… يبنيها المواطن بسلوكه وقيمه، وتُدعمها الدولة بسياساتها، ويُكملها المجتمع بطموحاته. كل واحد منا سفير، سواء أراد أم لم يُرد، وكل موقف صغير يروي للعالم جزءًا من قصة وطننا.
ضابط سابق بالحرس الوطني.

























