اخبار تونس
موقع كل يوم -أنباء تونس
نشر بتاريخ: ١٠ تشرين الأول ٢٠٢٥
تعب الشعب من السياسة، وتعبت السياسة من الشعب، حتى صارا يعكسان لبعضهما صورة العجز نفسها. يقف التونسي اليوم أمام مرآة تاريخه، لا ليتّهم السلطة، بل ليرى كيف ساهم باستهتاره أو بخوفه، في انحدار الوضع. لقد تشوّه المعنى العام للمسؤولية الأخلاقية، وتآلف المجتمع مع الرداءة، وفقد حسّ الغيرة على الصالح العام، فيما اختار المواطن، المنهك من الإحباط الجماعي، النفور أو الصمت.
العقيد محسن بن عيسى *
ومع ذلك، يبقى في العمق شيءٌ يرفض الاستسلام، خيطٌ رفيع من الحياء الوطني يهمس بأن تونس تستحق أفضل من هذا التردي. وهنا يُطرح السؤال الحادّ : هل نحن أمام أزمةِ غيابٍ للضمير أم أزمةِ تشتّتٍ فيه؟
ضمير النخب : البوصلة المفقودة
'النخب' هي بوصلة المجتمعات ورموزها وقياداتها. تتميّز بعمق الفكر واستشراف المستقبل والقدرة على الرؤية الشاملة للمشهد العام. لكن حين تفقد هذه البوصلة معايرتها، تتيه المجتمعات بأسرها.
وفي تونس، مرّ الضمير السياسي بفتراتٍ من الوهن، حين صارت النخب أسيرة مصالحها الضيّقة أكثر من ولائها للقيم الوطنية. وتبعا لذلك تحوّل الخطاب العام من وسيلة للتوجيه إلى أداة للمكاسب الشخصية والحزبية، وغاب البعد الأخلاقي حتى صار القرار يُتّخذ على أساس المصلحة لا على أساس المسؤولية.
لقد ودعنا في اعتقادي، جيل الانتهازيين من النخب، أولئك الذين زيّفوا الواقع ورفعوا شعاراتٍ جوفاء. لكن ما بعد 2011 لم يقدم بديلا خالصًا: فما زلنا نتعامل مع شريحةٍ من المخضرمين المهادنين، المتردّدين بين القطيعة مع الماضي والارتهان لصورته الممجَّدة. ولعلّ في ذلك ما يفسّر استمرار الزبونية والوصولية والبطولات الوهمية.
إنّ حجم قضايا الفساد التي تخص النخب وثقل الأحكام الصادرة فيها تكشف عن ظاهرة اجتماعية وثقافية متجذّرة في أنماط التفكير والعلاقات داخل المجتمع لا عن حالات فردية معزولة. ولم يقتصر أثر هذه النكسات القيمية على الفاعلين في الدولة، بل انعكس على المجتمع بأسره، مفرزًا إحساسًا بالخذلان وممهّدًا لغياب الضمير الجمعي الذي كان يومًا يوجّه السلوك العام.
ولا أزال أرى في الجامعة المحضن الأساسي لصناعة النخب وتوجيهها مع بعض الاستثناءات، فهي القادرة على تحويل الفكر إلى طاقة نقدٍ وإصلاح.
ضمير المجتمع: التآلف مع الرداءة
لم يكن المجتمع التونسي يومًا متلقّيًا للقرارات، بل كان دائمًا جزءًا من دائرة التأثير والتأثر التي تشكّل الضمير الجمعي. فثقافة الجماعة هي مصدر الإلزام الأخلاقي الذي يحدّد الواجبات والممنوعات، والمجتمع التونسي كان من أكثر المجتمعات العربية تحررًا وتقدمًا على الصعيد الاجتماعي، وظلّ حصنًا منيعًا في وجه التيارات المتشددة منذ السبعينات.
لكن أحداث 2011 لم تكن ثورة على غياب الديمقراطية، بل كانت في جوهرها رفضًا للأسلوب الذي انتهج به النظام السابق في تبديد الإرث الاجتماعي لبورقيبة. ذلك الإرث الذي وإن لم يكن ديمقراطيًا في شكله، فقد وضع مصالح الشعب في صلب مشروعه، وخلق توزنًا نسبيًا بين السلطة والمجتمع.
بعد 2011، بدأت تتشكل معادلة جديدة. صعدت قوى من خارج المؤسسات التقليدية، ليست أحزابًا ولا منظماتٍ مدنية بالمعنى الكلاسيكي، بل جماعات تبحث عن صوتها في الشارع، بعد أن فقدت الوسائط التقليدية قدرتها على التمثيل. نعيش على إيقاع 'سياسة الشارع'، محاولة جماعية لتفكيك التراتبية الموروثة التي اختزلت الدولة في شخص الزعيم أو الحزب الواحد أو النقابة المهيمنة.
غير أنّ هذا التحول لم يكن سلسَا. فالارتباك السياسي والاجتماعي، الممزوج بفتراتٍ من الانفلات الأمني، خلق حاجة ملحة إلى نظامٍ قادر على استعادة هيبة الدولة، ضمن مقاربة تمنح الأولوية للاستقرار والأمن. في خضم هذه الهزّات العنيفة، حدث شيء أعمق وأخطر: تآلف المجتمع تدريجيًا مع الرداءة.
لم يكن ذلك قرارًا واعيًا، بل انزلاقًا بطيئًا. صارت الرداءة في كل ما يحيط بنا: في الأقوال حين تحوّل الخطاب العام إلى شعارات جوفاء. في الأفعال حين أصبح التحايل على القانون 'وجهة نظر'، والرشوة 'تيسير معاملات'، والتهرب من المسؤولية 'حنكة سياسية'. في الممارسات اليومية حين تحوّل الفضاء العام إلى ساحة فوضى ومصبّات عشوائية.
تآلفنا مع رداءة الخدمات العمومية، مع تدهور البنية التحتية، مع تراجع التعليم والصحة. تآلفنا مع خطاب الكراهية، ومع الشائعات التي تُبنى عليها مواقف، ومع السطحية التي طغت على النقاش العام وعلى علاقاتنا الاجتماعية. ضعفت الروابط التي كانت تدعم المسؤولية المشتركة، وتراجع الحس بالغيرة على المجال العام، حتى صار الفساد 'عاديًا'.
هذا التآلف ليس نتيجة حتمية، بل هو ثمرة خيارات متراكمة: خيار النخب التي فضّلت مصالحها الضيقة، وخيار المواطن الذي استسلم للإحباط، وخيار المؤسسات التي فقدت مصداقيتها فصارت جزءاً من المشكلة لا من الحل. إنه تطبيع جماعي مع الانحطاط، صار فيه الاستثناء قاعدة، والقاعدة نسيًا منسيًا.
ومع ذلك، لا تزال هناك بذور ضمير حي هنا وهناك، تتجلى في المبادرات الصغيرة، وفي التمسك بالقيم الأصيلة، وفي الحس المتجذر بالعدالة والالتزام الأخلاقي الذي لم ينطفئ رغم كل الإحباطات. مستقبل تونس يُقاس بقدرة هذه البذور على النمو، وبمدى وعي القوى الاجتماعية والسياسية بمسؤوليتها في استعادة الضمير الجمعي قبل فوات الأوان.
ضمير المواطن: الصوت الخافت
الحديث عن ضمير المواطن هو حديثٌ عن السلوك، والتربية، والوعي، والمواطنة، والدين والهوية، أي كل ما يتقاطع فيه الشخصي والعام. ينشأ الضمير في الطفولة داخل البيت، ثم يتفتح في المدرسة ويُصقل في المنظمات، والجمعيات، ودور الثقافة، والشباب. ويكبر الانسان ويكبر معه ضميره، فيتطلع إلى العطاء، والتقدم، والتآلف، والأخوة. إنّ نهضة أيّ شعب لا تقوم على قوته الاقتصادية أو العسكرية، بقدر ما تقوم على رقابة ضمير المواطن ووعي الضمير الجمعي.
لكن هذا المواطن، الذي أنهكته التحولات، يعيش اليوم بين وعيٍ متزايدٍ بعمق الأزمة، وشعورٍ بالعجز أمامها. يراقب تصاعد العنف وتآكل القيم وتراجع الأداء العام، لكنه غالبًا يختار الصمت أو الانسحاب، إمّا خوفًا من الاصطدام، أو يأسًا من التغيير. هكذا يتحوّل الضمير الفردي إلى مساحة داخلية مغلقة، تكتفي بالتأنيب دون الفعل.
لكن هذا الانكفاء له أسباب أعمق، بعضها يتصل بفهمنا للدين ذاته. فالدين، في جوهره، ليس عباداتٍ فقط، بل معاملاتٌ وعمل، وإنتاج، وقيم، وأخلاق. غير أنّ تحويل كل نصّ ظني الدلالة إلى نصٍّ قطعيّ لا يقبل للنقاش يجعل الدين منظومة مغلقة جامدة، تضيق فيها مساحة الاجتهاد ويُغلق فيها باب العقل، فيتحول من مصدر للحياة إلى مصدر تحريم لكل جديد.
يبقى الضمير حيًّا، رغم كل شيء، في التفاصيل الصغيرة التي لا تلتقطها العناوين الكبرى: في الإخلاص في العمل، وفي زراعة القيم، وفي التفاعل الإيجابي مع الواقع. هذه التفاصيل هي التي تُبقي جذوة الضمير مشتعلة، وهي التي يمكن أن تتحوّل إلى طاقة تغييرٍ حقيقي حين يدرك المواطن أنّ مسؤوليته لا تقلّ عن مسؤولية الحاكم أو النخبة.
فالصحوة لا تبدأ من القمّة، بل من القاعدة، من الإنسان الذي يعيد اكتشاف صلته بوطنه عبر سلوكٍ صادق، وقرارٍ أخلاقيّ، في لحظةٍ يُخيّر فيها بين المصلحة والواجب. حينها فقط يمكن للضمير الفردي أن يستعيد صوته، وأن يسهم في ترميم الضمير الجماعي التونسي.
ليست أزمة الضمير التونسي أزمةَ غياب، بل هي أزمةُ تشتت. إنه ضميرٌ حيٌ لكنه مرهق، حاضرٌ لكنه مثقل بالتناقضات: بين تراث تحرّريٍّ أصيل، وواقعٍ يزداد انغلاقًا. الضمير هنا لا يحتاج إلى معجزة، بل إلى مساحات أملٍ ملموسة تثبت أن الالتزام الأخلاقي لا يقود حتمًا إلى الخسارة، وأن الصدق ليس شهادة فقر. نحتاج إلى بيئة لا تعاقب النزيه بالتهميش، ولا تكافئ المفسد بالثراء والنفوذ.
ربما يكون الحل في ميثاق أخلاقي جديد، لا تصيغه النخب في أبراجها العاجية، بل ينبثق من القاعدة، من تلك المبادرات الصامتة، والإخلاص اليومي في العمل، ورفض الاستسلام للرداءة. صحوة الضمير تبدأ عندما يدرك المواطن أنه ليس ظلًا للسلطة، بل شريك في صنع المصير.
تونس التي قاومت بتراثها الاجتماعي كل موجات التطرف، قادرةٌ اليوم على مقاومة انهيار قيمها. لكن المعركة هذه المرة ليست ضد عدوٍّ خارجي، بل هي معركةٌ مع الذات، مع ذلك الصوت الذي يهمس في أعماقها: ألا تستحق تونس أفضل ممّا هي عليه؟
* ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني.

























