اخبار تونس
موقع كل يوم -أنباء تونس
نشر بتاريخ: ٤ نيسان ٢٠٢٥
في خطوة جديدة تؤكد الطبيعة الشعبوية والحمائية لنهجه الاقتصادي، أعلن دونالد ترامب فرض تعريفات جمركية تصل إلى 49% على بعض الدول، مدعيًا أنها خطوة نحو 'الاستقلال الاقتصادي' للولايات المتحدة. هذا القرار، الذي يأتي في سياق حملته الانتخابية المتواصلة، ليس مجرد إجراء اقتصادي، بل هو جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى إحياء النزعة القومية الاقتصادية، وصرف الأنظار عن الأزمات الداخلية المتفاقمة، وإعادة تشكيل السوق العالمية وفقًا لمصالح رأس المال الأمريكي.
رياض الشرايطي
لكن هل هذه السياسات حقًا تهدف إلى حماية العمال الأمريكيين، أم أنها مجرد قناع يخفي محاولة جديدة لتعزيز الهيمنة الرأسمالية الأمريكية؟ وما الذي يمكن أن يترتب على هذه الإجراءات في المديين القصير والطويل؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، لا بد من تفكيك الخطاب الشعبوي الذي يروج له ترامب، وتحليل دوافعه الحقيقية، وتأثيره على الاقتصاد العالمي، وتناقضاته الداخلية.
الشعبوية الاقتصادية: قناع يخفي الأزمة البنيوية للرأسمالية الأمريكية
منذ وصوله إلى السلطة، استخدم ترامب خطاب 'أمريكا أولًا' كوسيلة لحشد الدعم الشعبي، عبر إيهام الطبقة العاملة الأمريكية بأن مشاكلها الاقتصادية ناجمة عن المنافسة الأجنبية، وليس عن السياسات النيوليبرالية التي سمحت للشركات الكبرى بنقل الإنتاج إلى الخارج بحثًا عن العمالة الرخيصة وتقليل الضرائب.
لكن الحقيقة هي أن الاقتصاد الأمريكي يعاني من أزمة هيكلية عميقة. فعلى الرغم من نمو الناتج المحلي الإجمالي، فإن هذا النمو لا ينعكس على الطبقة العاملة، حيث أن الأجور الحقيقية ظلت راكدة لعقود، في حين أن ثروات الأثرياء تضاعفت بشكل غير مسبوق.
إحدى أكبر المغالطات في خطاب ترامب هي فكرة أن فرض تعريفات جمركية على المنتجات الأجنبية سيؤدي إلى عودة المصانع الأمريكية وإعادة إحياء الصناعة الوطنية. لكن لماذا غادرت هذه الصناعات في المقام الأول؟ الجواب ببساطة هو أن الرأسمالية بطبيعتها تسعى إلى تعظيم الأرباح بأي وسيلة، حتى لو كان ذلك يعني نقل الإنتاج إلى دول أخرى حيث الأجور أقل والتنظيمات العمالية أضعف. وبالتالي، فإن التعريفات الجمركية لن تدفع الشركات متعددة الجنسيات إلى إعادة مصانعها إلى الولايات المتحدة، بل ستؤدي فقط إلى رفع الأسعار على المستهلكين الأمريكيين، مما سيزيد من الأعباء الاقتصادية عليهم.
الحرب التجارية : أداة جديدة لفرض الهيمنة الأمريكية
من الناحية التاريخية، لم تكن الحمائية التجارية مجرد سياسة اقتصادية، بل كانت دائمًا جزءًا من استراتيجية الهيمنة الإمبريالية. فالولايات المتحدة، التي تدعي دعمها لاقتصاد السوق الحر، لم تتردد في اللجوء إلى الإجراءات الحمائية عندما يهدد المنافسون موقعها في السوق العالمية.
السياسات الجمركية التي يروج لها ترامب ليست سوى أداة جديدة في هذه الحرب الاقتصادية، تهدف إلى فرض الشروط الأمريكية على الدول المنافسة. وعلى رأس هذه الدول تأتي الصين، التي تعتبرها واشنطن التهديد الأكبر لموقعها الاقتصادي، حيث أنها نجحت في بناء قاعدة صناعية قوية أصبحت قادرة على منافسة الشركات الأمريكية في الأسواق العالمية.
لكن المشكلة أن هذه الحرب التجارية لن تمر دون رد. فالصين والاتحاد الأوروبي لن يقفا مكتوفي الأيدي، ومن المتوقع أن يردوا بإجراءات مضادة، مثل فرض تعريفات على المنتجات الزراعية والصناعية الأمريكية. وهذا يعني أن المزارعين الأمريكيين، الذين يشكلون قاعدة انتخابية رئيسية لترامب، سيكونون من أوائل المتضررين، حيث ستنخفض صادراتهم، وسيتعرضون لخسائر كبيرة.
كما أن هذه الإجراءات ستؤدي إلى اضطرابات في الأسواق المالية، مما قد يخلق حالة من عدم الاستقرار تؤثر على الاقتصاد العالمي ككل. وكما أظهرت التجارب السابقة، فإن الحروب التجارية غالبًا ما تؤدي إلى نتائج عكسية، حيث أنها لا تعزز النمو الاقتصادي، بل تؤدي إلى تراجع الإنتاج، وارتفاع الأسعار، وانخفاض معدلات التوظيف.
تأثير هذا الإجراء على تونس : بين المطرقة والسندان
في ظل هذه الحرب التجارية، لن تكون تونس بمنأى عن التأثيرات غير المباشرة لهذه السياسات، نظرًا لارتباط اقتصادها بالأسواق الخارجية. هناك عدة طرق يمكن أن تتأثر بها تونس:
1 – تراجع الصادرات التونسية إلى الولايات المتحدة: رغم أن الولايات المتحدة ليست الشريك التجاري الأول لتونس، إلا أنها تُعتبر سوقًا مهمة لبعض المنتجات التونسية، وخاصة زيت الزيتون وبعض المنتجات الصناعية. إذا تم فرض تعريفات على المنتجات التونسية، فقد يؤدي ذلك إلى انخفاض الطلب، مما يفاقم العجز التجاري التونسي.
2- تاثير غير مباشر عبر أوروبا والصين: أي تباطؤ اقتصادي في أوروبا أو الصين نتيجة الحرب التجارية سيؤثر على تونس، حيث أن الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأكبر لتونس. فإذا تراجع النمو الأوروبي، سينخفض الطلب على الصادرات التونسية، مما قد يؤثر على الصناعات التونسية المحلية، ويزيد من البطالة.
3 – ارتفاع أسعار بعض السلع المستوردة: إذا ارتفعت أسعار السلع في الأسواق العالمية نتيجة للحرب التجارية، فقد تجد تونس نفسها مضطرة لدفع أسعار أعلى على المواد الأساسية المستوردة، مما سيؤدي إلى زيادة تكاليف المعيشة للمواطنين.
4- تاثير على الاستثمارات الأجنبية: عدم الاستقرار الاقتصادي العالمي قد يجعل الشركات متعددة الجنسيات مترددة في توسيع استثماراتها في تونس، مما قد يؤثر سلبًا على النمو الاقتصادي في البلاد.
بالتالي، قد تجد تونس نفسها مضطرة إلى البحث عن أسواق جديدة للصادرات، وتقليل اعتمادها على الأسواق المتأثرة بالحرب التجارية، إضافة إلى اتخاذ تدابير لحماية القدرة الشرائية للمواطنين من أي زيادات في الأسعار العالمية1.
استراتيجية لاستدامة الهيمنة الأمريكية على حساب الشعوب الأخرى:
إن السياسات التي يتبعها ترامب، والتي تشمل فرض تعريفات جمركية على الدول الكبرى، لا يمكن فهما بشكل منفصل عن الاستراتيجية الإمبريالية الأمريكية التي تهدف إلى الحفاظ على الهيمنة الاقتصادية والسياسية في عالم يعاني من التحديات الهيكلية العميقة. بينما يسعى ترامب إلى تعزيز مصالح الشركات الكبرى في الولايات المتحدة، لا يمكن إغفال أن هذا النهج جزء من سياق أوسع يسعى إلى إخراج الولايات المتحدة من أزمتها الاقتصادية المستمرة على حساب الشعوب الأخرى.
منذ بداية القرن العشرين، مارست الولايات المتحدة سياسات تهدف إلى استغلال دول الجنوب، سواء في أمريكا اللاتينية أو في آسيا أو أفريقيا. سياسة ترامب، المتمثلة في فرض تعرفات جمركية وتبني حمائية اقتصادية، تعتبر استمرارًا لهذا النهج الإمبريالي، حيث تضع عبء الأزمة الاقتصادية على عاتق البلدان التي تعاني أصلاً من تبعات العولمة غير المتوازنة.
من خلال هذه السياسات، تسعى الولايات المتحدة إلى حماية مصالحها الاقتصادية والحفاظ على هيمنتها في النظام الرأسمالي العالمي. وهذا لا يتم عبر تحسين الظروف الاقتصادية للعامل الأمريكي أو حتى تعزيز التصنيع الوطني، بل عبر تقليص المنافسة من الدول التي تملك فرصًا للنمو والتطور الاقتصادي، سواء كانت الصين أو دول الاتحاد الأوروبي أو حتى دول جنوب العالم.
ما تقوم به الولايات المتحدة اليوم هو بمثابة 'مقامرة' جديدة تهدف إلى ضمان الاستمرارية الاقتصادية عبر القمع الاقتصادي للشعوب الأخرى. وفي هذا السياق، تتداخل الأهداف السياسية والاقتصادية، حيث تبرز الهيمنة الإمبريالية في مسعى واضح لتحويل أي أزمة اقتصادية داخلية إلى فرصة لزيادة التوسع في الأسواق الخارجية، على حساب الغير.
سيناريوهات عدة لتأثيرات قرارات ترامب على الاقتصاد العالمي:
إن استراتيجيات ترامب الحمائية قد تكون بمثابة فخ يطوق الاقتصاد العالمي في المستقبل. على المدى القصير، قد يبدو أن بعض الشركات الأمريكية تحقق مكاسب من هذه السياسات، لكن في النهاية، سيؤدي ذلك إلى اختلالات اقتصادية على الصعيدين المحلي والعالمي.
1 – زيادة التوترات التجارية وحروب التعريفات: من المتوقع أن تؤدي الإجراءات التي اتخذها ترامب إلى تصعيد التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والعديد من الدول، ليس فقط على صعيد الصين، بل أيضًا مع الاتحاد الأوروبي وأميركا اللاتينية. ففي هذا السياق، ستتحول الحروب التجارية إلى ساحة مفتوحة للقتال الاقتصادي، مما قد يعطل سلاسل الإمداد العالمية، ويزيد من تكاليف الإنتاج، ويؤدي إلى إضعاف النمو الاقتصادي.
2- اعادة تشكيل التحالفات الاقتصادية العالمية : في مواجهة السياسات الحمائية التي يروج لها ترامب، من الممكن أن تعيد بعض الدول الكبرى النظر في علاقاتها الاقتصادية مع الولايات المتحدة. ومن المتوقع أن تنشأ تحالفات اقتصادية جديدة بين الصين والاتحاد الأوروبي ودول أخرى، بما في ذلك دول أفريقيا وآسيا، مما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل النظام التجاري العالمي وتهميش الهيمنة الأمريكية على الساحة الاقتصادية العالمية
3 – ارتفاع التكاليف للمستهلكين : من المتوقع أن يواجه المستهلكون الأمريكيون بشكل مباشر تأثيرات هذه السياسات عبر ارتفاع الأسعار. فإذا فرضت الولايات المتحدة تعريفات جمركية على السلع القادمة من دول أخرى، فإن الشركات الأمريكية ستضطر إلى رفع الأسعار لمواكبة التكاليف الجديدة، مما يضغط على القوة الشرائية للمواطن الأمريكي، خاصة في ظل بيئة اقتصادية غير مستقرة
4 – تأثير على الأسواق الناشئة : بالنسبة للأسواق الناشئة، مثل تونس ودول أخرى في المنطقة العربية، فإن هذه السياسات ستؤدي إلى إضعاف قدرتها على المنافسة في الأسواق العالمية. فمن جهة، ستؤدي الارتفاعات في أسعار السلع إلى تضخم التكاليف، ومن جهة أخرى، ستؤثر القيود المفروضة على الصادرات على القدرة التنافسية لهذه الدول في الأسواق الأوروبية والأمريكية. وهذا يمكن أن يؤدي إلى تفاقم العجز التجاري، وزيادة الفقر والبطالة، وتراجع معدلات النمو.
ضرورة التحرك الجماعي ضد الهيمنة الاقتصادية الأمريكية
إن السياسة التي تنتهجها الإدارة الأمريكية تحت قيادة ترامب ليست مجرد سياسات تجارية حمائية، بل هي جزء من استراتيجية إمبريالية تهدف إلى تعزيز الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي في ظل أزمة هيكلية عميقة يواجهها النظام الرأسمالي. وبالطبع، فإن الضحايا الرئيسيين لهذه السياسات هم شعوب الدول النامية، التي تعاني أصلاً من قلة الفرص الاقتصادية وارتفاع مستويات الديون.
من المهم أن نعي أن هذه السياسات لا تمثل فقط مصالح الطبقة العاملة الأمريكية، بل هي جزء من محاولة لتحميل العبء على باقي شعوب العالم، عبر تهميش المنافسة الاقتصادية وفرض أسعار مرتفعة على السلع الضرورية. وهذا يتطلب استجابة من الدول المتضررة، وخاصة في العالم العربي، للحد من تبعيات هذه السياسات، من خلال تعزيز التعاون الإقليمي، والتحرك الجماعي ضد الهيمنة الاقتصادية من قبل القوى الكبرى، وتطوير سياسات تنموية مستقلة تضمن تحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية لجميع شعوب العالم.
شاعر و محلل سياسي.